تُدشّن إسرائيل بعدوانها الإجرامي على إيران فصلًا جديدًا ومخيفًا في علاقتها المشؤومة بشعوب المنطقة؛ فصلًا عنوانه الإرهاب الخالص والتهديد الدائم بالإبادة أو التخريب على أقل تقدير.
رسالة نتنياهو واضحة في الواقع: إسرائيل هي القوة الوحيدة المسموح لها بامتلاك أي مقدرات عسكرية ذات شأن في المنطقة، بل إن أي مشروع تنموي، حتى لو كان منسجمًا مع آليات السوق الرأسمالي العالمي وما تتيحه من فرص شحيحة، يجب أن ينال رضا هذا الكيان العدواني ويضمن له حصته بالتبعية.
هذه رسالة موجهة إلى كل أنظمة الإقليم، المعتدل فيها قبل الممانع، وإلى كل شعوبه المطحونة التي تتطلع إلى حياة كريمة. إنها بلطجة محضة لا تتجمل بأي حديث عن سلام، أو تطبيع، أو علاقات مشتركة مع شعوب المنطقة… الخضوع وفقط، هو المطلوب من هذه الشعوب والأنظمة.
ويخطئ من يظن أن هذا العدوان هو رد فعل على التمدد الإيراني حتى حدود إسرائيل خلال العقدين الماضيين. ضرب إيران مشروع قديم يعمل عليه نتانياهو نفسه منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي – أي قبل المشروع النووي وقبل العلاقة مع حماس أصلًا – ويحظى بمباركة مجمل الطبقة الحاكمة الإسرائيلية ولم يكن ينقصه إلا الضوء الأخضر الأمريكي. والدافع الأساسي لهذا الإجماع الإسرائيلي القديم هو التوجس من أي نظام يعلن عن مناوئته للمشروع الصهيوني أيًا كانت خلفيته الأيديولوجية وأيًا كانت حقيقة دوافعه وقدراته وتحالفاته. وليس غريبًا على كيان استيطاني عنصري يرى في كل شعوب الإقليم تهديدًا على وجوده أن يشعر بالاستنفار بمجرد أن يعلن أي نظام في هذا الإقليم نوايا استقلالية.
هذه المباركة الأمريكية تمثل بحد ذاتها الفصل الأخير من علاقة النخب الحاكمة الغربية بمنطقتنا. كانت إسرائيل دائمًا طرفًا أولى بالرعاية منذ تأسيسها، وساهم الغرب في ضمان تفوقها الكاسح كجزء من إخضاع وابتزاز هذه المنطقة المحورية لاقتصاده ونمط حياته ككل. ولكن الجديد أن هذه النخب الغربية الآن – وكما كشفت تطورات حرب الإبادة في غزة – تتبنى الرؤية الإسرائيلية بشأن شعوبنا بوصفها فائض بشري غير قابل “للإصلاح” أو الدمج في السوق الرأسمالي العالمي إلا عبر الإرهاب والتخويف والإخضاع بأشد الأشكال بدائية. وبالتالي، فالإرهاب الإسرائيلي هو في جوهره تعبير عن إرهاب أعمق كامن في علاقة الطبقات الحاكمة الغربية بشعوب هذه المنطقة واستدعته حرب الإبادة الإسرائيلية للسطح.
في مواجهة هذه الرسالة المخيفة تتوزع الطبقات الحاكمة في العالم العربي بين مواقف مختلفة. في الخليج مثلًا، ترى الطبقات الحاكمة هناك فرصة للارتزاق من هذا الوضع عبر تدوير فوائضها المالية في الإقليم، وإعادة هيكلة اقتصاديات مجتمعاته بما يخدم هذا الهدف، وذلك كله بضمانة البلطجة والابتزاز الإسرائيلي- الأمريكي. رأينا جميعًا من شهر واحد فقط كيف تسابقت قيادات السعودية والإمارات وقطر في مشهد بالغ الانحطاط على رشوة ترامب علنًا للقبول بوضعها الجديد المهيمن. ورأينا كذلك كيف تسابقت نفس النخب – بما في ذلك مشايخ قطر المنافقين- لشراء السلاح الإسرائيلي، ومشاركة الطيارين الإسرائيليين مناوراتهم الجوية بينما يفتك هؤلاء الطيارون يوميًا بأهلنا في غزة.
أما في مصر، فطبقتنا الحاكمة، بالرغم من رفضها المعلن لمشروع التطبيع على حساب الشعب الفلسطيني، تقف عاجزة أمام هذا المشروع بعد أن رهنت قرارها، ومصيرنا جميعًا، بإرادة رأس المال الخليجي الذي حدد لنا وضعًا هامشيًا تابعًا في مشروعه. والتبجح الإسرائيلي المتجدد الذي يصرّ على تنفيذ مخطط تهجير أهل غزة إلى مصر دليل واضح على المأزق الذي قادتنا إليه طبقتنا الحاكمة.
وأخيرًا، هناك الوافدين الجدد من قادة المليشيات الإرهابية الذين أعيد تأهيلهم خليجيًا وأمريكيًا للعب دور في حراسة الحدود الإسرائيلية مقابل السماح لهم بإقامة جيوب ومعازل طائفية يمارسون فيها استبدادهم الرجعي على فقراء المنطقة، والحديث طبعًا عن الشرع/الجولاني في سوريا وأشباهه في ليبيا بل وفي فلسطين نفسها.
تبقى الغالبية الكاسحة من شعوبنا، جماهير العمال والفلاحين وعموم المستغلين، أيًا كانت أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم وأجناسهم، وحيدة عزلاء تواجه هذا الوضع الكئيب. وهذه الغالبية الساحقة من الناس تتسلط على عقولها “نخب” جديدة إعلامية وسيبرانية مفضوحة بعمالتها لهذه الطرف الحاكم أو ذاك وتُغرِق هذه الشعوب بدعاية طائفية مجنونة تزين لها تدمير إيران كانتصار لأهل السنة أو للعرب.
بالطبع لم تكن هذه الدعاية الطائفية المنحطة لتسود إلا على خلفية الجرائم التي ارتكبها النظام الإيراني عبر أذرعه في إقليمنا طوال العقدين الماضيين. ونحن لا تخامرنا الأوهام أبدًا بشأن طبيعة النظام الحاكم في إيران، فهو بالطبع نظام رجعي طائفي قضى العقدين الماضيين على وجه الخصوص في مساومة طويلة لتحسين شروط اندماجه في السياق الإمبريالي العالمي عبر الاستثمار في الصراعات الطائفية الأهلية في عدد من دول المنطقة وتصفية قواها الديمقراطية. إلا أن واقع اليوم يؤشر للحقيقة المرّة: وهي أننا جميعًا سندفع ثمن تدمير المقدرات الإيرانية. بل لا نبالغ إذا قلنا أن إيران قد يكون لها فرصة للتعافي في المستقبل – تحديدًا بحكم هامشيتها في السوق الرأسمالي العالمي – بينما أننا هنا في العالم العربي نواجه خطر الإخضاع الأبدي للبلطجة الإسرائيلية – الأمريكية.
إن هذا الواقع المرير يجب أن يكون دافعًا لكافة الجماعات والقوى الديمقراطية في مصر بالأساس، وباقي دول المنطقة بالطبع، لإعادة بناء تصوراتها وخطابها بشأن المستقبل في ضوء المعطيات الجديدة. الآن أصبح واضحًا أن لا تنمية ولا ديمقراطية ولا أمن بدون الفكاك من أسر التبعية لرأس المال الخليجي، وبدون التحرر من الترتيبات الأمنية الأمريكية، بما يشمله هذا التحرر من تنويع في مصادر سلاحنا وعتادنا العسكري والسعي لتطوير تكنولوجيا محلية ملائمة لاحتياجاتنا. وبالطبع لا تنمية ولا ديمقراطية ولا أمن يُرتجى في ظل هيمنة الوعي الطائفي والمذهبي الذي تغذيه بجنون جماعات إسلامية شتى، بل وبعض أجنحة المؤسسات الدينية الرسمية المنتفعة من حكام الخليج. هذه الدعاية هي وصفة للانتحار الذاتي ببساطة.
هذا طريق طويل وشاق وغير مضمون النتائج، ولكن الإجرام الإسرائيلي ودماء أهلنا في فلسطين ودماء المدنيين الإيرانيين الأبرياء، توضح بجلاء أنه الطريق الوحيد. وهذا طريق لن تسلكه إلا قوى مناضلة واعية، عينها على هموم شعوبها وعقولها مشغولة بالمستقبل ولا تتعلق بماضي ذهبي متوهم أو تخضع لاستغفال هذا النظام أو ذاك.
عاش كفاح شعوبنا في سبيل الحياة والأمن والحرية والكرامة…