القضاء العسكرى فى الحياة المدنية “ورقة موقف”

خلفية:

من بعد الحادث الإرهابى الأخير الذى وقع بكمين القواديس فى محافظة شمال سيناء وأسفر عن مصرع ثلاثين جندي مصري وإصابة العشرات, أصدر رئيس الجمهورية قرارًا بقانون يسري لمدة عامين ويخول بموجبه للقوات المسلحة مشاركة جهاز الشرطة في حماية وتأمين المنشآت العامة والحيوية بالدولة على أن تحال الجرائم التي ترتكب ضد هذه المنشآت إلى النيابة العسكرية توطئةً لعرضها على القضاء العسكري للبت فيها.

وجاء هذا بعد يوم من انتهاء مجلس الوزراء من تعديل قانون القضاء العسكرى توسيعا ً لاختصاصاته لتشمل قضايا الإرهاب التي تهدد سلامة وأمن البلاد وفق ما جاء بنصوص المواد المُعدلة.

وهذه التطورات فى الحقيقة خطيرة للغاية ومثيرة للعديد من التساؤلات والشكوك حول نوايا النظام الحالى بخصوص الحفاظ على مدنية الدولة ونظامها الجمهورى الذى أقسم رئيس الجمهورية على احترامه عندما أدى اليمين أمام الجمعية العامة للمحكمة الدستورية عقب انتخابه فى يوليو الماضى.

كما تحيط بهذه القرارات والتعديلات أيضا ً العديد من شبهات عدم الدستورية بما قد يصل تفسيره إلى حد أن  مجلس الوزراء والرئاسة يحاولان الانقضاض على نفس الدستور الذى كانوا يروجون له بشدة فى شهر يناير الماضى داعين المواطنين بإلحاح للموافقة عليه.

وتعنى هذه الورقة المُختصرة بالنظر فى الجوانب القانونية والسياسية لتلك الإجراءات وما قد يكون لها من تداعيات على كافة المستويات.

الجانب القانونى والدستورى:

من الناحية القانونية، يمكن للقوات المسلحة مساعدة الجهاز الشرطى فى حماية المنشآت العامة والحيوية عند الحاجة والطلب، لكن تكمن الإشكالية الحقيقية فى أن يكون للقضاء العسكرى الإستثنائى ولاية على جرائم هى مدنية بطبيعتها وتتعلق بمنشأت مدنية بطبيعتها أيضا ً.

أما الخطر الأكبر فهو أن الوضع القانونى الذى خلقته هذه القرارات والتعديلات لا توجد به أي ضمانات فأفعال التعدى على المنشآت العامة وما يحدث بداخلها, بصرف النظر عن ماهيتها، ستعد من اختصاص القضاء العسكرى, مما يمثل تعدى صارخ على المجال المدنى ويوسع من سطوة المؤسسة العسكرية حتى على ما لا علاقة له بالإرهاب.

وحجة اللجوء إلى القضاء العسكرى فى هذا الصدد بسبب بطء إجراءات التقاضى بالقضاء المدنى لا موضع لها هنا على الإطلاق لأن الحل البسيط لذلك هو تبني وتفعيل منظومة إصلاح القضاء وتطويره التي طرحت أكثر من مرة منذ قيام الثورة وقبلها بحيث تزداد الدوائر التي تنظر فيها القضايا وتزداد كفاءة القضاة العاملين عليها.

كما أن القرار بقانون الذى أصدره السيد رئيس الجمهورية وتعديلات مجلس الوزراء فى شأن سلطات القضاء العسكرى معيبة دستوريا ً وبها من العوار الدستورى ما لا يمكن تجاهله لتعارضها مع المادة 97 من الدستور (لا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعى، والمحاكم الاستثنائية محظورة) وأيضا ً مع المادة 204 من الدستور التى تحدد اختصاص القضاء العسكرى كما يلي: (لا يجوز محاكمة مدنى أمام القضاء العسكرى، إلا فى الجرائم التى تمثل اعتداء مباشراً على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما فى حكمها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التى تمثل اعتداء مباشراً على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم)، وهي المادة التي اعترضنا عليها عند طرح مسودة الدستور للاستفتاء أصلا على اعتبار أن كافة هذه التهم والجرائم يمكن تناولها أمام القضاء العادي وفي قانون العقوبات ما يتناولها وكفيل بردعها طالما اقترفها مدنيون.

ولا يغير من ذلك فى شئ أن ذات المادة تخول للقانون إختصاصات القضاء العسكرى الأخرى حيث لا يجوز أن يبيح القانون ما حظره الدستور صراحة وكما هو وارد فى نص المادة.

وسيؤدى تطبيق القرار بقانون سالف الذكر وحتى إلغاءه (إما بالمحكمة الدستورية كما هو متوقع أو بانتهاء نفاذه بعد عامين) إلى محاكمة الآلاف من المدنيين أمام القضاء العسكرى وستصير الأحكام باتة باستنفاذ كافة طرق الطعن عليها. وبما أن الإلغاء ولو حتي بالدستورية يرد علي مادة إجرائية متعلقة بالاختصاص القضائى, فلن ينال الإلغاء, سواء بحكم عدم الدستورية أو بانتهاء الأثر الزمني لإعمال القانون, من الأحكام الباتة طبقا ً لقانون القضاء العسكرى ولو كانت تلك الاحكام في طور تنفيذها, ولن يستفيد المحكومين بميزة البراءة ولو أثناء تنفيذ الحكم. وسيكون أثر كل ذلك انه سيتم تحويل كل من يتفوه في مسائل مدنية لا ترتقى الي وصف جريمة أصلا ً لقضاء عسكري يفتقد لكافة ضمانات المحاكمة العدالة. فالقضاء العسكرى بعكس القضاء المدنى لا يتيح إمكانية الطعن على أحكام الجنايات أمام محكمة النقض طبقا لقانون الإجراءات الجنائية إذا حدث خطأ أو عوار أصاب الحكم.

الجانب السياسى:

يعود بنا هذا الوضع إلى الوراء حوالى ستين عاما ً ويعيد إلى الأذهان ذكريات العاملين البقرى وخميس الذين تم إعدامهما لمجرد مشاركتهما فى احتجاج عمالى عام 1952, فما بالنا باتهامات بالأعمال الإرهابية وهو الوضع الذى يمكن أن يتكرر ببساطة متناهية فى ظل تركيبة قانونية ترتكز على تعبيرات فضفاضة يمكن تفسيرها على حسب الأهواء.

ويعنى هذا فى الواقع العملى زيادة مطردة فى تغول وإحكام سيطرة المؤسسة العسكرية على الحياة المدنية بكافة مناحيها عبر ترهيب المواطن وتهديده بالعقاب الشديد إذا ما تجرأ ومارس حقه فى المشاركة بالشارع السياسى أو حتى المجال العام بتعريفه الواسع دون رضاء النظام الحاكم عن ذلك وهو الأمر الذى يستهدف بوضوح قتل التعددية السياسية والقضاء نهائيا ً على كافة مكتسبات ثورة 25 يناير.

كان الاعتراض الرئيسى للقوى الديمقراطية فى الماضى دائما ً هو تخوفها من أن تصنع القوات المسلحة لنفسها دولة بداخل الدولة بعيدة عن الرقابة الشعبية والبرلمانية, إلا أن القرارات وتعديلات القوانين سابقة الذكر تعنى فى الحقيقة ما هو أكثر كارثية من ذلك وهو أن تتحول الدولة ككل إلى جزء من المؤسسة العسكرية وتكون المؤسسات المدنية بأفرعها التشريعية والتنفيذية والقضائية مجرد مجموعة من الديكورات تؤدى فقط غرض إضفاء الطابع المدنى على الدولة من الخارج دون أن يكون لذلك جوهر فعلى يدعمه بأى شكل من الأشكال.

ولا يمكن إعتبار ذلك سوى أنه خطوة أخرى في الطريق إلى “العسكرة” الكاملة للدولة والتى لا علاقة لها بنوعية الزى الذى يرتديه رئيس السلطة التنفيذية, بل تُقاس بمنهجها وتوجهاتها ومدى محاولات دمجها ما بين المؤسسة العسكرية ودائرة صنع القرار السياسى الذى يمكنه أن يتحول بين عشية وضحاها إلى مجرد أداة من أدوات تحقيق المصالح الذاتية للقوات المسلحة وهو الأمر الذى يضر أولا ً وأخيرا ً بنفس هذه القوات المسلحة وقدراتها على الاضطلاع بدورها في حماية الوطن.

وليس من شك فى أن هذا المنحى شديد الانحياز إلى زيادة سيطرة المؤسسة العسكرية وتعظيم نفوذها له علاقة بما لرئيس الجمهورية من انتماء سابق لم يستطع فيما يبدو التخلص منه وهو أيضا ً يدل على كونه غير قادر على التعامل مع شأن الدولة بالحد الأدنى من التوازن بحيث يميل دائما ً إلى تهميش المؤسسات المدنية أو إخضاعها، ومنها البرلمان الذي يبدو أن انتخاباته ستؤجل لأجل غير مسمى، وكذلك القضاء المدني الذي لا يتوانى في هذه المرحلة عن إصدار أحكام انتقامية وغير ملتزمة بمعايير حقوق الإنسان الدستورية كما رأينا في العديد من الأحكام الأخيرة بل ورفض الالتزام بالدستور في تنظيم شئونه كما رأينا في عدم تطبيق المواد الدستورية المتعلقة بمشاركة النساء في مؤسسة القضاء.

كما ييثير التوجه المطروح مخاوف عديدة فيما يتعلق بعملية التحول الديمقراطى للبلاد لما كانت المؤسسة العسكرية مؤسسة معادية للديمقراطية بطبيعتها – وليس هذا بعيب فيها طيلة ما هى غير متداخلة فى المجال السياسى – وتنظر إلى المدنيين والحياة المدنية على أنهم / أنها سياق غير منضبط, بل وفوضوى يحب ترويضه دونما اعتبار للحريات العامة وعلى رأسها حرية الرأى والتعبير والتجمع.

ونخلص من ذلك إلى أن مراجعة هذه القرارات والتعديلات واجبة فورا ً إذا كان هناك بالنظام الحاكم من لا يزال حريصا ً على الحفاظ على ما تبقى من النظام الديمقراطي وعدم تعميق حالة الاحتقان القائمة حاليا ً ما بين القوى الثورية والشبابية والديمقراطية من جانب والسلطة من جانب آخر. هذا مع التأكيد على اتفاق كافة الأطراف فيما يتعلق بمسألة وجوب وضرورة مواجهة الإرهاب بأكثر الطرق حزما ً ولكن فى إطار يحترم دولة القانون دون الخروج على المبادئ الدستورية الثابتة التى تنص على مدنية الدولة وتُعرف القوات المسلحة التى يكن لها الجميع كل التقدير والإحترام على أنها ملك للشعب وفى خدمة الشعب وليس العكس.