عامان على حكم السيسي

التقرير السياسي السابع الصادر من الجمعية العمومية لحزب العيش والحرية (تحت التأسيس)

عامان على حكم السيسي .. مع نظرة خاصة على الاقتصاد والقضاء

أولا – نظرة عامة

تناولت تقارير حزبية سابقة السمات الرئيسية لما يسمى بمشروع السيسي للإنقاذ والتحديات التي تواجهه والتناقضات التي تعتريه، ويهدف هذا التقرير الذي يرصد حصاد عامين من حكم السيسي للكشف عن الطريقة التي تعاطى بها السيسي ونظامه مع هذه التحديات ونتائجها سواء على مستوى العلاقات الاقليمية والدولية أو الأوضاع المحلية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

لم يكن خافيا منذ تقلد السيسي الحكم أننا بصدد مشروع سلطوى ترعاه المؤسسة العسكرية يقوم على العداء للحريات العامة والخاصة وللمجال العام ولكل قوى مستقلة وفاعلة ، وعلى السعي لإخضاع الفئات الرأسمالية وإلزامها بالعمل تحت قيادتها. دوليا قدم السيسي مشروعه للمراكز الرأسمالية الحاكمة والمهيمنة باعتباره البديل الوحيد للفوضى والإرهاب، القادر على تأمين مصالحها في المنطقة ، وسعى لشراء صمتها عن الانتهاكات المتزايدة لحقوق الانسان وتوحش القوى الأمنية وانهيار منظومة العدالة ، بمنح الشركات العالمية الكبرى عقود سخية في اطار خطة تنفيذ ما يسمى بالمشروعات القومية الكبرى ، فضلا عن مشتريات للسلاح بأرقام فلكية لا تتناسب بأي حال مع واقع الأزمة الاقتصادية الطاحنة.

ولقد أتت هذه السياسة ثمارها بالفعل لأنها استندت بشكل واقعي على ما يريده العالم من مصر ، سواءً على مستوى التعاقدات التجارية في عالم يسوده الكساد أو على صعيد مواجهة الإرهاب والمساعدة علي تأمين أوروبا من فيض المهاجرين والمقاتلين العائدين. وليس أدل على ذلك من نجاح نظام السيسي في تجاوز أزمات كبرى تسبب فيها جنون ووحشية الأجهزة الأمنية وانعدام كفاءتها في الوقت نفسه ، تجلت في حادث قتل السياح المكسيكيين ثم إسقاط الطائرة الروسية في شرم الشيخ وأخيرا تعذيب وقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، والأخيرة مازالت تداعياتها تتفاعل.

وعلى الرغم من الاعتماد المتزايد على الدعم الخليجي، السعودي خصوصا، ما زالت إدارة نظام السيسي قادرة على الحفاظ على مسافة ومساحة من الاختلاف مع مواقف المملكة التي تزداد تورطا في الحروب المذهبية في سوريا واليمن. فمشاركة مصر في التحالف العسكري في اليمن مشاركة رمزية ، ومصر لا تزال تعلن مواقف تتمايز عن موقف السعودية بخصوص الحرب الأهلية/الاقليمية المشتعلة في سوريا ، ولا يختلف الأمر في العراق وإن بدا أكثر ارتباكا ، فبينما يكتفي النظام ببيانات تخلوا من أي موقف، يحاذي الأزهر أكثر على موقف السعودية ويصدر من حين لآخر بيانات تستنكر اضطهاد السنة في العراق وتنكيل الميليشيات الشيعية بهم. وللتعويض عن ذلك، لم يكن أمامها إلا أن تدفع مقابل لهذا الدعم في قضية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين والتي انتهت بالتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية ، وهي القضية التي تسببت في أزمة كبرى للنظام وخطابه “الوطني الشعبوي”، وخصوصا بعد حكم مجلس الدولة ببطلان الاتفاقية مما وضع النظام في وضع بالغ الحرج. والجدير بالذكر أن هذه القضية لا يمكن فصلها، من ناحية أخرى، عن التحسن المطرد في علاقات نظام السيسي بإسرائيل وسعيه لمساعدتها على تطبيع علاقاتها مع دول المنطقة ، فضلا عن التعاون الوثيق في محاربة الإرهاب بسيناء. فإسرائيل، التي أعلنت أنها كانت على علم بتفاصيل الاتفاقية – التي لم يعلم المصريون عنها شيئا – قبل توقيعها، هي المستفيد الأول منها حيث يترتب عليها تدويل الممرات المائية في البحر الأحمر، والتي كانت خاضعة للسيادة المصرية. ولا يتوقف الأمر عند ذلك ، فالنظام الذي يتعثر في التوصل إلى اتفاق مع أثيوبيا لتفعيل اعلان المبادئ الخاص بأزمة سد النهضة الأثيوبي، لا يجد إلا اسرائيل وسيطا بينه وبين إثيوبيا، فيطير وزير خارجيته إلى القدس، وليس حتى تل أبيب، للقاء قادة اسرائيل عقب عودة نيتنياهو من رحلته الأفريقية في زيارة وصفها الأخير بنقطة تحول في علاقات البلدين، وهنا يراهن السيسي أيضا على مساهمة هذه العلاقات في دعم شرعية نظامه دوليا. وأخيرا ، الشرعية الدولية لنظام السيسي مرشحة للاستمرار في ظل تزايد نفوذ اليمين العنصري في أوروبا وأمريكا وهو الأكثر ميلا للتعاون مع أنظمة الحكم المستبدة في بلادنا.

ولكن هذا “النجاح” الخارجي الذي تزامن مع نجاح، جزئي أيضا، داخليا في التصدي للإرهاب وشل فعالية جماعة الإخوان المسلمين التي تمزقها الانشقاقات، لم يكن له الآثار الايجابية المتوقعة على الوضع الداخلي، سواء فيما يتعلق بالرضا الشعبي عن أداء سلطة السيسي أو بأي نجاح يذكر لمشروعه لإنقاذ الدولة.

رهانات السيسي وغياب التنمية والإصلاح

من ناحية ، اصطدم رهان السيسي على تنمية معتمدة على الاستثمارات الأجنبية المباشرة ودعم الدول الخليجية مع حالة الأزمة الممتدة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وانخفاض اسعار النفط الذي انعكس على الفوائض الريعية الخليجية، فلجأ بدلا من ذلك إلى القروض التي أصبحت أقساطها وفوائدها تمتص معظم القروض الجديدة التي يجري التعاقد عليها كل يوم. ومن ناحية أخرى، يشهد قطاع السياحة انهيارا شبه كامل أدى لانخفاض حاد في إيرادات العملة الأجنبية مما زاد من الضغوط على الجنيه المصري. وفي غياب أي مشروع جدي للتنمية والتوسع في المشروعات الكبرى لأغراض سياسية، لا لجدواها الاقتصادية (حتى لو ساهمت في الحد من تفاقم البطالة)، تأتي اجراءات خفض العجز في الموازنة لتزيد الضغوط على المصريين بالمزيد من ارتفاع أسعار السلع والخدمات، كنتيجة للتخفف المتزايد من عبء الدعم والتضخم وانخفاض سعر الجنيه أمام العملات الأجنبية في بلد يعتمد بشكل كبير على الاستيراد. أما محاولات النظام للحد من الآثار الكارثية لهذه السياسات على مستوى معيشة المواطنين، سواء بتحسين منظومة التموين وتوزيع الخبز أو مد مظلة الضمان الاجتماعي لمعدومي الدخل، فمحدودة الأثر ولا تمس حياة ملايين العاملين بأجر. وهذه النقاط سيتم تناولها بقدر من التفصيل في الجزء الثالث من التقرير.

ومن ناحية أخرى ، لا يملك السيسي أي مشروع جدي لإصلاح وتطوير أجهزة الدولة التي تعاني التفكك والفساد وانعدام الكفاءة. وحتى عندما تقدم بمشروع قانون الخدمة المدنية، فقد انصب جهد المشرع على السعي لخفض الأجور لتقليل العجز في الموازنة، دون أي اهتمام برفع كفاءة الجهاز الإداري نفسه. أما إصلاح وتطوير أجهزة الجيش والشرطة والقضاء فهذا يعد من وجهة نظر السلطة بمثابة هدم للدولة، فلا مجال للاقتراب من هذه المملوكيات المستقلة التي تمتص معظم ايرادات الدولة. وهو ما سيتم تناوله في الجزء الثاني المتعلق بالقضاء.

مساحات الاحتجاج والمقاومة

لا شك أن الفجوة بين الواقع المر المعاش وبين الآمال الكبيرة التي تعلقت بها قطاعات واسعة من الجماهير مع تقلد السيسي الحكم تزداد اتساعا يوما بعد يوم. ويظهر ذلك أول ما يظهر على شكل احتجاجات متفرقة تشتعل وتخبو في كل مكان ، مطالبات بأجور متأخرة أو زيادات في الدخول، احتجاجات على انقطاع متكرر في المياه والكهرباء رغم ارتفاع أسعارها، وأخرى على تدهور الخدمات خصوصا في التعليم والصحة، مطالبات بإصلاح الأوضاع في مصانع القطاع العام وتشغيل المغلق منها. كان أوسع هذه الاحتجاجات وأكثرها تنظيما الاحتجاج على قانون الخدمة المدنية الذي ينتقص الكثير من حقوق العاملين، وهو ما أدى إلى اضطرار البرلمان – السابق التجهيز من قبل الأجهزة الأمنية – إلى رفض إقرار القانون في صفعة غير متوقعة للسيسي وحكومته. ولكن النظام الذي لم يتعلم الدرس يناور من أجل إعادة تمرير القانون مع تعديلات هزيلة، بل ومرر موازنة الدولة للعام الجديد دون الالتزام بالنسب المقررة في الدستور لموازنات التعليم والبحث العلمي والصحة، مما يهدد ليس فقط بالمزيد من التدهور في مستوى أداء هذه الخدمات الضرورية، بل ولإمكانية الطعن بعدم دستورية الموازنة وما قد ينتج عن ذلك من تداعيات.

من ناحية أخرى، لم تتوقف الاحتجاجات ضد الممارسات القمعية للسلطة من قبل مجموعات سياسية وشبابية متنوعة رفضا للانقضاض على مساحة الحريات التي تم انتزاعها بثورة 25 يناير. هذه الاحتجاجات التي كانت قطاعات من الجماهير المتعلقة بآمال الإصلاح من أعلى، تقابلها بنفور واستنكار خوفا من تعطيل مسيرة الاصلاح المزعومة. ولكن بمرور الوقت ، انضمت الجماهير في الدرب الأحمر وفي الأقصر وفي الاسماعيلية وغيرها ، فضلا عن نقابات الأطباء والمحامين، للاحتجاجات على ممارسات الشرطة مما أجبر النظام على التراجع، ولو شكليا، عن مبدأ عدم محاسبة “أسياد البلد” وتقديم بعضهم للقضاء.

وبالتوازي مع ما سبق تنمو، إلى جانب النشاط الذي دب في عدد من النقابات المهنية التي نجحت بعض القوى الديمقراطية في انتزاع بعض مقاعد مجالسها، وفي ظل غياب الإخوان وظهير سياسي للدولة، حركة طلابية نشيطة في المدارس والجامعات، حتى أن وزارة التعليم العالي، بإيعاز من الأجهزة الأمنية ، لم تعترف بتشكيل اتحاد طلاب الجمهورية وجمدت نشاطه بعد أن نجح الطلاب في إسقاط مرشحي الأجهزة الأمنية وانتخاب من يرونهم الأجدر بتمثيلهم.

ويمتد الغضب ليشمل قطاعات واسعة من المصريين مثل النوبيين والمسيحيين وبدو سيناء الذين يدفعون ثمنا باهظا للحرب على الارهاب. لا يكتفي النظام بتجاهل حقوق النوبيين في التشريعات المصرية وتفعيل الدستور وإصدار قانون اعمار النوبة، بل يضرب بعرض الحائط المادة 236 من الدستور التي انتصفت لحقوقهم في الأرض والثروة، ويصدر القرار الجمهوري 444 لسنة 2014، الذي تحول لقانون بعد إقرار البرلمان له، والذي يجرد النوبيين من هذه الحقوق عمليا بعد أن أقر باعتبار 110 كيلومتر من شرق البحيرة و25 كيلومتر من غربها حدودا عسكرية لا يسمح بالتنقل أو السكنى فيها ، علما بأن الحدود الشرقية مع اسرائيل تحدد لها 5 كيلومترات فقط كحدود عسكرية!! وهو ما يعني أن ما يربو على 18 قرية نوبية في الأراضي التي يفترض أن يعود اليها النوبيون دخلت في حيز هذه الحدود العسكرية. أما بالنسبة للمسيحيين الذين منحوا السيسي تأييدا ودعما غير مشروط ثمنا لتخليصهم من حكم الإخوان الطائفي وجرائمه، ليفاجئوا بنظام السيسي يتبع نفس السياسة الاجرامية لأسلافه في التواطؤ مع جرائم العنف الطائفي ضد المسيحيين وليستمر إفلات المجرمين من العقاب بالتواطؤ مع الأجهزة الأمنية والمحلية، ويجبر المسيحيين على جلسات صلح عرفي تفرض عليهم عقوبات مالية وتهجير للسكان في صورة من أبشع صور الاضطهاد والتنكيل. ويضاف إلى ذلك حبس أطفال وشباب مسيحيين بتهمة ازدراء الأديان جنبا الى جنب مع كتاب ومثقفين مثل اسلام البحيري وفاطمة ناعوت، وكأن السيسي ونظامه يطبقون برنامج الإخوان الذين أزاحوهم من الحكم.

ثم جاء تنازل السيسي للسعودية عن جزيرتي تيران وصنافير في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين ليشعل ثورة غضب هائلة يواجهها النظام بعنف بالغ وأحكام قاسية لا تمت للقانون بصلة ، وتقتحم قوات الأمن نقابة الصحفيين وتلقي القبض على النقيب وعضوين بالمجلس وتقدمهم للمحاكمة في سابقة هي الأولى من نوعها في بلادنا. وتزامن ذلك مع عزل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ثم تقديمه للمحاكمة على خلفية تصريحات صحفية حول تقرير الجهاز عن الفساد، وكذلك اتساع الحملة الشرسة على منظمات المجتمع المدني المستقلة عموما، والحقوقية بوجه خاص، لم يسلم منها حتى أعضاء في المجلس القومي لحقوق الانسان الذي يعتبر أحد أجهزة الدولة.

لأين نتوجه؟

إن اتساع الاحتجاجات ومظاهر الغضب وتنوعهما، والذي تواجهه الدولة بدرجات مختلفة من العنف حسب طبيعة الاحتجاج ومدى جماهيريته، لا يجب أن يجرنا إلى تقديرات خاطئة سواء حول قوة الحركات المعارضة أو حول ضعف النظام. فالأخير رغم أزماته لازال في وضع قوي ويتلقى الدعم إقليميا ودوليا، والحركات الجماهيرية والمعارضة أضعف من أن تمثل تهديدا أو بديلا له. والتعويل على الصراعات داخل النظام نفسه غير مجدي، فهو لن يغير شيئا من طبيعة النظام، كما أن أطراف التحالف الحاكم ليسوا من الجنون للمغامرة بالتغيير، وغاية أكثر أطرافهم تطرفا إدخال بعض التعديلات أو زيادة نفوذها في سلطة اتخاذ القرار. ولقد أثبتت التجربة وخبرة السنوات السابقة أن أطراف التحالف الحاكم، أيا ما كانت خلافاتهم وصراعاتهم التي تظهر أحيانا في وسائل الإعلام الخاصة، تتوحد جميعا في مواجهة أي حراك ديمقراطي أو تحرك جماهيري مستقل.

أما الحركات والاحتجاجات الجماهيرية على تنوعها، فرغم أنها في وضع أفضل مما كانت عليه في أي وقت مضى خلال السنوات الثلاث السابقة، إلا أنها تسير في مسارات مختلفة ولا رابط بينها. ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى ضعف الحركة السياسية ومنظماتها التي يعتبر توفير مظلة سياسية واحدة لهذه الحركات أحد أهم مهامها، ولكن الحركة السياسية نفسها تعاني من التضييق والحصار الأمني وتحتاج لتجديد وإعادة بناء قواها سياسيا وتنظيميا على أنقاض معارضة مبارك التي ولى زمانها، وهي مهمة ليست باليسيرة في ظل هذه الظروف. إن عملية اعادة بناء الحركة السياسية ونسج الروابط بينها وبين الحركات الجماهيرية هي في جوهرها مهمة واحدة، وعلى الحركات السياسية أن تخوض معارك الحريات السياسية والمدنية حول قضايا مثل سجناء الرأي وحرية التعبير والمشاركة السياسية، ومعارك نوعية تخص فئات معرضة للتهميش والتمييز مثل أهالي سيناء والنوبة أو حول المسألة الطائفية أو النسوية، والانخراط في الوقت نفسه في كافة المعارك الجماهيرية الموقعية في القرى والمصانع والأحياء والجامعات وغيرها، وربط كل ذلك ببعضه. وهنا تأتي معركة انتخابات المحليات القريبة كخطوة على طريق بناء تحالف واسع لكل القوى الديمقراطية مع القيادات المحلية والشابة يجب المشاركة فيها بكل جدية.

إن انكشاف حدود النظام وإصلاحاته المزعومة يسير جنبا الى جنب مع انفضاض الجماهير من حوله وعودتها للنضال. لقد انتهت فترة السماح والترقب وبدأت الجماهير تعود للساحة، وانكشف الغطاء عن نظام عاجز عن أي مواجهة جادة مع قضايا الإصلاح والتغيير، نظام يخسر ظهيره الشعبي في نفس الوقت الذي يفتقد فيه ظهير سياسي يعمل كحلقة وصل بينه وبين الجمهور الواسع ويستوعب الصراعات داخله، نظام لم يعد له من أداة للحكم إلا الأمن والقضاء، وهو ما يلقي بمسئوليات كبيرة على حزبنا وكافة القوى الطامحة للارتباط بحركة هذه الجماهير والتعويل عليها وحدها في السير من الإصلاحات التى تحسن من حياة الناس الى التغيير الجذري للنظام الاقتصادي الاجتماعي الظالم وبناء مجتمع اشتراكي بديل.

ثانيا: القضاء شريكا في الحكم والعدالة تدفع الثمن

لم يكن لمشروع السيسي السلطوي أن يقطع ما أنجزه من خطوات بدون استناده إلى دعم ومعاونة جماعات نشطة أوسع قليلًا من نخبة صنع القرار الضيقة المشكلة من كبار ظباط الجيش ومسئولي “الأجهزة السيادية” الذين يعج بهم قصر الإتحادية. فالسيسي يستند إلى “ائتلاف سياسي” إن جاز التعبير حتى ولو لم يكن ائتلافًا حزبيًا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة؛ أي جماعات قادرة على تجميع وتمثيل عدد من المصالح والرؤى والمطالب والتفاوض بشأنها من داخل نفس المشروع السياسي المهيمن. ومشروع السيسي كما فصلنّا في تقاريرنا السياسية السابقة يتشكل حول عنوان عريض هو “استعادة الدولة“، والذي يمثل في جوهره طبعة مهجنة من الليبرالية الجديدة أكثر محافظة وسلطوية مما ساد خلال السنين الأخيرة من عهد مبارك. هذا الدور السياسي الموكول للأحزاب عادةً في الديمقراطيات، أو حتى بعض السياقات السلطوية، تقوم به في حالتنا جماعات تعبر عن فئات مهنية أو إجتماعية تقوم بالوساطة مع نخبة صنع القرار الضيقة للحصول على امتيازات لتلك الفئات في مقابل كفالة الرضاء السلبي لجمهورها، أو المشاركة الفعالة إن لزم الأمر في تأييد نخبة الحكم، إلى جانب قيامها هي نفسها بمهمات نوعية تتفاوت درجة أهميتها في المشروع الحاكم. هي جماعات ذات هوية مزدوجة إذن، فهي جزء من نخبة الحكم ولكنها كذلك تلعب دور الجماعات النقابية في نفس الوقت، وتغدو مع الوقت نخبًا مكتملة التكوين تحوز لمصلحتها نصيبًا أعلى بما لا يقارن من تلك المنافع والمزايا التي تتوسط بشأنها. وكما أشرنا في تقاريرنا السابقة كذلك، فقوام هذا الائتلاف الحاكم يتشكل من نخب رأسمالية وعسكرية وأمنية وبعض النخب البيروقراطية والإعلامية إلى جانب نخبة قضائية متميزة للعب أدوار مختلفة تصب كلها في مسار مشروع الليبرالية الجديدة المهجن.

هنا يشكل مشروع السيسي استمرارية وقطيعة مع نهج مبارك في الحكم خلال زمنه الممتد، بل ومع نهج الحكم القائم منذ يوليو ١٩٥٢ وحتى الآن. فمن حيث الاستمرارية، فقد تأسس منذ نهاية الخمسينيات نمطًا لتمثيل المصالح يقوم على استبدال المجال السياسي المفتوح لصياغة المصالح وتمثيلها بصيغة من العلاقة المباشرة مع نخبة صنع القرار عبر تنظيمات إدماجية هرمية غير تعددية ينتظم فيها المواطنين إجباريًا وتمثل المجال الوحيد المسموح للتفاوض بشأن التوزيع أو أولويات السياسة العامة. من ضمن أمثلة هذه الكيانات الاتحاد العام لعمال مصر ومختلف النقابات المهنية القائمة حاليًا. و بينما ضمنت النجاحات المحدودة لنموذج التحديث الرأسمالي السلطوي على الطراز الناصري قدرًا من الحيوية لهذا النمط من التمثيل، أدت الأزمة المالية والاقتصادية الممتدة إلى تحوره ليصبح نموذجًا قائمًا على ضمان انتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب من السلطة المركزية أو توليد فوائض مالية خاصة بهذه الفئة أو تلك والخضوع لأقل قدر ممكن من الرقابة أو المحاسبة في المقابل. تحولت تلك الهياكل والحال كذلك إلى ما يشبه الإقطاعيات غير الخاضعة لأي قدر من الرقابة؛ أما استقلالها المزعوم، فهو في الحقيقة محض تخارج من مجال الرقابة الشعبية. وتُعد حالة ما يعرف باقتصاد الجيش مثالًا كاشفًا في هذا الشأن. كذلك الحال مع المؤسسات الدينية الرسمية والمسيحية وعدد أكبر من الجهات البيروقراطية. في هذه الأمثلة انخرطت النخب المتميزة داخل هذه الفئات في عملية انتزاع مساحات من الاستقلالية التامة سواء في شكل اقتصاد غير خاضع للرقابة كما في حالة الجيش أو في صيغة كوادر مالية خاصة وصناديق لا تخضع للرقابة بدورها. وفي المقابل دافعت هذه النخب بشراسة عن هرمية تلك التنظيمات النقابية ووحدتها النافية للتعدد والتي تشكل بحد ذاتها مبرر وجود لها ولأوضاعها المتميزة.

محصلة هذا النمط من صياغة وتمثيل المصالح هو مزيد من الانهيار المهني في أداء هذه الفئات، وهو انهيار لم تولي له نخبة صنع القرار بالًا يذكر إذ كانت تندفع باتجاه آليات السوق غير المنظمة تحت وهم أن تنتج هذه الآليات بحد ذاتها فئات اجتماعية جديدة تسند مشروع نخبة الحكم في المستقبل وتسمح بتشكيل ائتلاف سياسي جديد. بهذا المعنى ترافق التحول لاقتصاد السوق بمزيد من انهيار حكم القانون وتآكل الثقافة المدنية الديمقراطية داخل مؤسسات الدولة على العكس من أوهام مؤسسات التمويل الدولية كالبنك والصندوق الدوليين، ناهيك عن تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية التي أدت إليها هذه السياسات بالأساس. أما مظاهر اختلاف الائتلاف الحاكم الحالي مع ائتلافات مبارك فتتمثل بالأساس في غياب حزب واحد يشكل أحد مسارات عملية التفاوض تلك وتعديل محتوى السياسات الليبرالية الجديدة باتجاه تدخل أكثر كثافة لقطاعات رسمية في تفعيل عملية التحول الرأسمالي نفسها، وعلى رأسها الجيش بالطبع، وهو ما يسمح بدور أوسع للفئات المتميزة الوسيطة داخله.

ومن أحد أهم أوجه الاختلاف عن مبارك هو زيادة الاعتماد على النخبة القضائية في عملية الحكم بشكل غير مسبوق. والمفارقة أنه بينما حظي دور النخب العسكرية والأمنية بكثير من الاهتمام والدراسة، إلا أن دور النخب القضائية مازال لم يُستكشف بشكل كاف بعد. وربما يعود هذا التجاهل النسبي للافتراض الذي سيطر على المعارضة الديمقراطية زمنًا طويلًا أن القضاء بالمجمل هو مؤسسة تتمتع بمستوى من المهنية والاستقلال، بالمعنى الإيجابي للكلمة، خصوصًا عند تصدي وجوه معروفة من القضاة لمواجهة السلطة التنفيذية في ٢٠٠٦ للمطالبة بقانون جديد يضمن استقلال السلطة القضائية ويحد من تدخلات السلطة التنفيذية في أعمال القضاء. إلا أن الدور الحالي للنخبة القضائية في التعاون مع السيسي في حصار كافة أشكال التعبير المدني الديمقراطي في المجتمع وتدعيم سلطوية غير مسبوقة في طابعها القمعي لم يكن تحولًا مفاجئًا ناتج عن تواطؤ مجموعة محدودة من القضاة، بقدر ما إنه نتاج ميراث طويل من العلاقة مع نخبة الحكم لم يشذّ عن نمط تمثيل المصالح السابق شرحه. وكانت معركة ٢٠٠٦ والحال كذلك هي تعبير عن محاولة تعديل هذا النمط باتجاه مزيد من التخارج عن الرقابة الشعبية والمحاسبة أكثر من كونها معركة ديمقراطية الطابع.

فمنذ الصدام الشهير بين عبد الناصر ونادي القضاة في عام ١٩٦٩ و هو الصدام الذي تجاوزه السادات سريعًا في إطار انقلابه على المجموعة القوية المحيطة بسلفه في ١٩٧١، تشكلت نخبة قضائية متميزة تلعب الدور المزدوج ذاته الذي لعبته غيرها من الفئات كشريك في الائتلاف الحاكم ووسيط بين نخبة صنع القرار والجماعة القضائية الأوسع. وتراوحت أدوار هذه النخبة بين المعاونة التشريعية لصياغة توجهات النخبة الحاكمة الجديدة باتجاه اقتصاد السوق المقترن بشكل من التعددية الحزبية المقيدة، وتحصين هذه التوجهات نفسها من المنازعة القضائية، خصوصًا أمام المحاكم العليا والدستورية منها على وجه الخصوص. فكافة التوجهات الجديدة للنخبة الحاكمة تم تحصينها دستوريًا في سلسلة من الأحكام الشهيرة التي أقرت بدستورية تحرير العلاقات الإيجارية في المساكن مثلًا عام ١٩٩٦ أو في الأراضي الزراعية عام ١٩٩٧ وكذلك تحصين قانون قطاع الأعمال العام الذي أطلق عملية الخصخصة عام ١٩٩٣ وغيرها من قوانين ضرائب مختلفة خلال فترة التسعينيات. وفي المقابل، جرى التغاضي التام عن احترام أي قواعد مهنية في التعيين أو الترقي إلى الحد الذي انتهى بالقضاء إلى ما يشبه الطائفة المغلقة على نفسها عبر توريث المناصب القضائية بالأساس. وانعكس ذلك على تدني الأداء المهني لغالبية القضاة والذي رصدته وجوه النخبة القضائية قبل غيرها خلال هذه الفترة.

ما ينبغي التشديد عليه أن هذا التعاون لم يكن وليد تواطؤ أو خيانة بقدر ما كان تلاقي موضوعي شجّع عليه ميل النخبة الحاكمة للتحلل من التزامتها المالية كما سبق الذكر وميل الجماعة القضائية لاقتناص أوسع مساحة استقلال ممكنة في سياق اجتماعي ضاغط ويفتقر لأي آليات أخرى لصناعة وتمثيل المصالح. وأفاد هذا التقارب من الميل المحافظ العميق لعموم القضاة تجاه منظومة العلاقات الاجتماعية القائمة في مصر. هذا الميل المحافظ لا يقتصر فقط على بعض المواقف المعروفة من حقوق وحريات المرأة مثلًا، وعلى رأسها المعارضة الشديدة لتعيين المرأة في المناصب القضائية، أو الموقف من الحريات الدينية وحرية التعبير فيما يتعلق بتلك القضايا، ولكنه يمتد كذلك للموقف من الحقوق والحريات السياسية لعموم المواطنين. فعلى الرغم من سيادة رؤية أكثر انفتاحًا بالطبع لنطاق هذه الحقوق وضماناتها من رؤية النخب الأمنية والعسكرية الحاكمة، إلا أن هذه الرؤية القضائية ظلت محكومة بأسقف أكثر انخفاضًا بكثير مما تظن المعارضة الديمقراطية. وإذا ما وضعنا جانبًا عددًا من الأحكام المهمة والمؤسسة لعدد من المحاكم العليا بشأن ضمانات المحاكمة العادلة مثلًا، والتي سعت للحد من تدخلات السلطة التنفيذية في أعمال القضاء بالأساس، فهذه المحاكم نفسها وغيرها تبنت تاريخيًا مواقف شديدة المحافظة بشأن مضمون وضمانات حقوق التجمع والتعبير والتنظيم السلمي بداعي الحفاظ على النظام العام والأمن القومي والآداب العامة. وهي دواعي وحجج دائمًا ما تستخدم للمصادرة على أي حراك جماهيري يهدف لمسائلة أو تعديل أو تجاوز أشكال التفاوت الاجتماعي المختلفة التي يعج بها البناء الاجتماعي في بلدنا. ويشمل نفس الميل المحافظ كذلك الموقف من قضايا الملكية والسياسات الإقتصادية والتي كانت مواقف القضاء منها في الكثير من الأحيان على يمين النخب الحاكمة المتعاقبة، وهو الموقف الراسخ الذي سمح بمزيد من التعاون مع تلك النخب عند تحولها باتجاه اقتصاد السوق ثم الليبرالية الجديدة.

هذا الميل المحافظ وليد النشأة التاريخية للجماعة القضائية، والقانونية بشكل عام، في مصر والتي حاذت وضعها المتميز بفضل التحول الرأسمالي البطئ منذ بداية القرن العشرين بقدر ما ساهمت في دعمه وصياغة وجهته وتسريع وتيرته. وهو تحول تم كما هو معروف على حساب الغالبية الساحقة من المواطنين وبثمن تثبيتهم على هامش المجال السياسي على اعتبار أن توسيع وتعميق دائرة مشاركتهم يعني بالضرورة تهديدًا للنظام الجديد الهش للعلاقات الإجتماعية الصاعدة. واقترنت التجربة الاشتراكية القصيرة في الحقبة الناصرية – على محدودية أفقها – في وعي الجماعة القضائية بتراجع مكانة القضاة بل وتدمير معاشهم ونمط حياتهم نفسه كما تشي تجربة “مذبحة القضاة” في ١٩٦٩ السابق الإشارة لها. ومن ثم اختزن الوعي القضائي هذه الخبرة وأعاد انتاجها وتوريثها للوافدين الجدد للمهنة وترسخت قناعة مفادها أن أي تحول جذري يستهدف تعديل تركيبة العلاقات الاجتماعية القائمة يمثل بالضرورة تهديدًا لاستقلال القضاة ومكانتهم الإجتماعية.

هذا التعاون الوثيق مع مبارك ونخبته بدأ يشهد توترًا واضحًا مع الاندفاع باتجاه الليبرالية الجديدة في مطلع الألفية والتي أفادت منها فئات اجتماعية قديمة وأخرى جديدة، واستطاعت جماعات مهنية أخرى أن تؤمن بفضلها استقلالًا غير مسبوق بشئونها. ولّد هذا الوضع توترًا داخل الجماعة القضائية لم تستطع نخبتها القائمة استيعابه وبلورته وهو ما سمح لبعض القضاة المنتمين لجماعة الإخوان أو القريبين منها في توظيفه وإكسابه مظهرًا أكثر جذرية من حقيقته. لا ينبغي أن ننسى أن احتجاجات القضاة في عامي ٢٠٠٥ و ٢٠٠٦ قد تمحورت حول مطلبين أساسيين هما ضرورة إقرار الموازنة القضائية رقمًا واحدًا في الموازنة العامة للدولة على ألا تناقش في الجلسات العامة للبرلمان ونقل تبعية التفتيش القضائي من وزارة العدل إلى مجلس القضاء الأعلى. جرى الترويج للمطلبين، على طريقة “ولا تقربوا الصلاة” كضمانة لاستقلال السلطة القضائية في مواجهة السلطة التنفيذية وهو قول حق يراد به باطل في الحقيقة إذ أن الاستقلال عن السلطة التنفيذية يجب أن يقترن بمزيد من الرقابة الشعبية الممثلة في السلطة التشريعية. كل ما هو دون ذلك يعني تخارجًا للمؤسسة من أي التزام ديمقراطي واستقلالًا بشئونها في مواجهة السلطة التنفيذية وفي مواجهة المجتمع بأسره أسوة بالجيش والشرطة. والحقيقة أن الدعوة لرفع مؤسسة القضاء لمكانة الجيش والشرطة كانت مقولة محورية سادت في الجمعيات العمومية لنادي القضاة خلال تلك الفترة العاصفة في دلالة واضحة أن جوهر الاحتجاجات كان متعلقًا بالدفاع عن مكانة متميزة متوهمة للقضاة وسعيًا لاقتناص مساحة أكبر من الاستقلال المالي في نظام سياسي يتجه للتفكك بخطى متسارعة. أما كل المطالب المتعلقة بمراجعة سن تقاعد القضاة مثلًا أو إلغاء الندب والإعارة بالكامل وليس فقط نقل تبعية هذه القرارات لمجلس القضاء الأعلى فقد تم دفعها لذيل قائمة المطالب ولم ترفع إلا على استحياء ومن قبل بعض القضاة الاستثنائيين كالمستشار هشام البسطويسي. ناهيك عن أن مطلب فتح المناصب القضائية أمام المرأة أو ضرورة وضع قواعد شفافة ومهنية للتعيين في تلك المناصب عمومًا هي مطالب لم تطرح من الأصل. لا ننكر هنا أن أثرًا ديمقراطيًا قد تولد نتيجة هذا الصدام بين الجماعة القضائية وبين نخبة مبارك الحاكمة، ولكن هذا الأثر الديمقراطي لا يعني أن طابع هذا الحراك نفسه كان ديمقراطيًا.

في هذا السياق، استقبلت الجماعة القضائية ثورة يناير بوصفها فرصة لتجديد دماء نخبتها وإعادة التفاوض بشأن استقلالها مع نخبة صنع القرار الجديدة دونما إخلال بنفس الصيغة الموروثة من زمن مبارك المتعلقة بصناعة المصالح وتمثيلها. وعلى هذا الأساس كان التعاون مع المجلس الأعلى للفوات المسلحة عبر تقديم الدعم والمشورة والتواطؤ في ملف محاكمات رموز نطام مبارك وصياغة عددًا من التشريعات القمعية المبكرة، كقانون منع الاعتصامات والإضرابات في صيف ٢٠١١ منطقيًا. هذه الفترة كذلك هي التي شهدت إعادة تجديد الثقة بأحمد الزند وزمرته كممثلين للجماعة القضائية والتمسك بالنائب العام السابق عبد المجيد محمود. كانت الجماعة القضائية لا تناصب المشروع الديمقراطي الذي فتحت ثورة يناير أفقه العداء ولكنها لم تكن من أشد المتحمسين له كذلك.

إلا أن التفاعلات الناتجة عن الانهيار السريع في مؤسسات الحكم وضعت النخبة القضائية في مهب ضغوط قادمة من اتجاهات مختلفة منذ صيف ٢٠١١. فالجماعات الديمقراطية الصاعدة سرعان ما بدأت تشهر أصابع الاتهام في وجه القضاء على خلفية التواطؤ الواضح في ملف المحاكمات، في حين أن جماعة الإخوان المسلمين بدورها سرعان ما بدأت مناوشاتها مع القضاء خوفًا من دور محتمل قد تلعبه تلك المؤسسة في عرقلة سيناريو وصول الجامعة لمقاعد الحكم. ومن خلف جماعة الإخوان كان هناك جمهور التيار الإسلامي الذي يرى في المؤسسة القضائية المستقلة والمغلقة على نفسها، والتي تحوذ بالرغم من ذلك قدرًا معتبرًا من النفوذ، حائلًا بينها وبين نموذجها السلطوي في الحكم المتمثل في استبداد الأغلبية. وهنا انتقلت النخبة القضائية ومن خلفها غالبية الجماعة القضائية من خانة الحياد في علاقتها بالقوى السياسية الجديدة – الديمقراطي والسلطوي منها- إلى خانة العداء الصريح للجميع. واتخذ هذا العداء أشكالًا مختلفة سواء داخل قاعات المحاكم، كما حدث في قرار حلّ مجلس النواب وحلّ الجمعية التأسيسية والتواطؤ في ملف محاكمات رموز نظام مبارك ثم البدء في قلب طاولة الاتهام لتطول قادة هذه القوى الجديدة أنفسهم واتهامهم بتدبير أحداث قتل المتظاهرين أو فتح السجون خلال أيام الثورة الأولى، أو خارج قاعات المحاكم كما حدث في التأييد الصريح والخفي لأحمد شفيق مثلًا في انتخابات الرئاسة أو شن الهجوم المتواصل على هذه القوى عبر المنابر الإعلامية المختلفة.

تفاقمت الأزمة كذلك نتيجة منهج جماعة الإخوان منذ وصلوها لمقاعد الحكم في ٢٠١٢ والذي سعى إلى صدام مفتوح مع الجماعة القضائية بوصفها الحلقة الأضعف في سلسلة خصومها والتي شملت الأجهزة الأمنية بالأساس وقيادات المؤسسة العسكرية وبعض جماعات الرأسمالية المتعاونة معها. هذا الصدام الذي بدأ بأزمة الإعلان الدستوري كان يهدف إلى إنزال هزيمة سريعة بالنخب القضائية في حين أنه سعى لتحييد باقي خصومه أملًا في تأسيس تحالف سلطوي معهم أكثر رسوخًا في المستقبل لم يكن ليتم إلا على حساب المشروع الديمقراطي نفسه. وما رفعه الإخوان من شعارات في هذه المعارك المتتالية مع الجماعة القضائية كان أيضًا حقًا يراد به باطل كالدعوة لخفض سن التقاعد، والذي لم يكن يهدف إلا للتخلص من خصومهم داخل المؤسسة القضائية واستبدالهم بقضاة موالين للجماعة. بل وصلت المهزلة حدها مع تفصيل نصوص خاصة في دستور ٢٠١٢ لا تهدف إلا لاستبعاد شخصيات بعينها من تشكيل المحكمة الدستورية العليا. هذا النهج السلطوي الغبي أثبت فشله الذريع سريعًا بل وعجّل بمهمة التخلص من الإخوان إذ أن صدامهم الدائم مع الجماعة القضائية الذي اتخذ أبعادًا شخصية وسلطوية واضحة، كان مؤشرًا لباقي خصومهم أن الجماعة غير مأمونة الجانب وأن وجودها في السلطة هو مصدر دائم لعدم الاستقرار كما يفهمه ويعرفه أولئك الخصوم. فانتهى الأمر بمزيد من التحالف والتعاون الوثيق بين النخبة القضائية والنخبة الأمنية العسكرية إلى الحد الذي تحولت فيه النخبة القضائية لشريك رئيسي في عملية عزل مرسي في ٣ يوليو ٢٠١٣، بل وانتهى الأمر برئيس المحكمة الدستورية العليا رئيسًا مؤقتا للجمهورية. ومن هذه النقطة اُفتتح فصل جديد من فصول التعاون بين نخبة صنع القرار الأمنية- العسكرية وبين النخبة القضائية: فصل كانت العدالة هي أول وأهم ضحاياه.

انتزعت النخبة القضائية منذ هذا التاريخ عددًا غير مسبوق من مطالبها المؤجلة منذ ٢٠٠٦. فاستطاعت أخيرًا أن تؤمن مطلبها الأثير وهو ميزانية الرقم الواحد في دستور ٢٠١٤ وتوسع تعريف الهيئات القضائية ليشمل هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية بكل ما يرتبه هذا التوسع من منافع. كما أمنت كذلك مطلبها الخاص بنقل تبعية التفتيش القضائي لمجلس القضاء الأعلى. واستطاعت المحكمة الدستورية العليا أن تستقل بشئونها بشكل كامل على صعيد الاختيار كما استثنت نفسها بنجاح من تطبيق قانون الحد الأقصى للأجور. واستطاعت بنجاح أن تستبعد أي حديث عن كل ما يتعلق بإصلاح أحوال القضاء المهنية إن على صعيد قواعد التعيين أو الندب أو سن التقاعد، واكتفى الدستور بإشارة إلى ضرورة سن قانون ينظم عملية الندب خلال دورة الانعقاد الأولى لمجلس النواب الحالي.

في المقابل، اتخذ . فاستطاعت أخيرًا أن تؤمن مطلبها الأثير وهو ميزانية الرقم الواحد في دستور ٢٠١٤ وتوسع تعريف الهيئات القضائية ليشمل هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية بكل ما يرتبه هذا التوسع من منافع. كما أمنت كذلك مطلبها الخاص بنقل تبعية التفتيش القضائي لمجلس القضاء الأعلى. واستطاعت المحكمة الدستورية العليا أن تستقل بشئونها بشكل كامل على صعيد الاختيار كما استثنت نفسها بنجاح من تطبيق قانون الحد الأقصى للأجور. واستطاعت بنجاح أن تستبعد أي حديث عن كل ما يتعلق بإصلاح أحوال القضاء المهنية إن على صعيد قواعد التعيين أو الندب أو سن التقاعد، واكتفى الدستور بإشارة إلى ضرورة سن قانون ينظم عملية الندب خلال دورة الانعقاد الأولى لمجلس النواب الحالي.

في المقابل، اتخذ التعاون المذكور منذ يوليو ٢٠١٣ وحتى الآن أشكالًا ثلاثة مترابطة ومتداخلة على مستوى المحاكمات، وإدارة شئون الجماعة القضائية وعلى مستوى التشريع. على صعيد المحاكمات لم تأل الجماعة القضائية جهدًا في التنكيل بخصوم النخبة الحاكمة الجديدة، أو بخصومها هي، عن طريق التلاعب في تشكيل الدوائر أو تشكيل دوائر خاصة لمحاكمات أقرب ما تكون بالمحكامات الميدانية وهي المعروفة بدوائر مكافحة الإرهاب، وأحكام الإعدام بالجملة بخلاف الأحكام المغلظة بحق طيف واسع من النشطاء الديمقراطيين. هذا بخلاف العمل بتناغم غير مسبوق مع النيابة العامة والشرطة للعصف بأبسط قواعد العدالة الجنائية والحق في المحاكمة العادلة بدءًا من قبول محاضر ضبط وتحريات وتحقيقات لا ترقى للحد الأدنى من الضمانات التي تمسكت بها هذا الجماعة في السابق وحتى عقد المحاكمات في أكاديميات الشرطة. أما على صعيد السيطرة على الجماعة القضائية نفسها، فقد شهدت الأعوام الثلاثة ما يمكن تسميته بمذبحة ثانية “صامتة” للقضاة عن طريق إحالة العشرات من القضاة للصلاحية. شملت المجموعة المحالة عددًا كبيرًا من القضاة المعروفين بانتمائهم أو تعاطفهم مع جماعة الإخوان إلى جانب عدد آخر أقل من القضاة غير المتعاونين بما فيه الكفاية مع النخبة المتميزة الجالسة على قمة الهرم القضائي.

أما وجه التعاون الثالث، وهو الأخطر، فيجري على صعيد التشريع. فما كان للتحلل من ضمانات المحاكمة العادلة أن يجري دونما تعديلات قانونية تسمح بهذا التعسف في التعامل مع المتهمين. لدينا هنا عدد من التعديلات لقوانين العقوبات والإجراءات الجنائية أو تشريعات جديدة عصفت بالحد الأدنى من الضمانات الدستورية لحريات التعبير والتنظيم والتجمع كقانون الإرهاب والتظاهر وإضافة المادة ٧٨ في قانون العقوبات الخاصة بالتمويل الأجنبي. هذا بخلاف تولي مهمة التشريع بشكل شبه كامل خلال غيبة البرلمان الطويلة عبر لجنة الإصلاح التشريعي المشكلة من قبل السيسي، والتي ما زالت تعمل بالمناسبة حتى الآن على الرغم من تشكيل مجلس النواب، أو عبر نخبة قضائية في مجلس الدولة. هذا الالتفاف على عمل السلطة التشريعية يوائم بالطبع ميل السيسي للعمل خارج أي مؤسسات مدنية ديمقراطية يكن لها الرجل احتقارًا عميقًا. هذا التداخل غير المسبوق بين مهمات التشريع ومهمات الفصل في الدعاوي يضرب مبدأ الفصل بين السلطات في مقتل ويلقي بظلال كثيفة على نزاهة القضاء. لم يعد الأمر متعلقًا إذن بتدخلًا في عمل السلطة القضائية لتمرير أحكام بعينها ولم يعد تعاونًا من على أرضية التوافق الأيديولجي بقدر ما أصبح الموقف أن القضاة هم أنفسهم مشرعون من نوع ما. ولا يستقم والحال كذلك أن يبطلوا ما شرعوه هم أنفسهم سلفًا.

محصلة السنوات الثلاث الماضية إذن هو شراكة قضائية أصيلة في ائتلاف السيسي الحاكم تعمق من أزمة استقلال ومهنية القضاء ككل بالاقتران مع تدعيم طابعه المحافظ والطائفي. ويحمل هذا الوضع عددًا من الخلاصات المهمة لنشطاء الجماعات الديمقراطية. أول هذه الخلاصات ذو طابع برامجي وهو أن المطلب القديم الراسخ للمعارضة الديمقراطية في مصر المتعلق باستقلال القضاء يجب أن يقترن بمطلب لا يقل إلحاحًا وأولوية يتعلق بمقرطة القضاء عبر ضمان امتداد آليات الرقابة الشعبية إلى آليات عمل هذ المؤسسة الداخلي ودعم التوجهات التقدمية الحريصة على مهنية المؤسسة في نفس الوقت. هذا النضال سيصطدم بالضرورة بوجوه النخبة القضائية الرئيسية ولكنه سيجد له أنصارًا من داخل الجماعة القضائية الأوسع والتي بدأت تتحس مخاطر هذه الشراكة غير المسبوقة على شرعيتها وقبولها العام من قبل قطاعات واسعة من المواطنين وأن الثمن أكثر ارتفاعًا بكثير من أي مكاسب وقتية. لن يشتد عود هذه الحساسيات الديمقراطية داخل الجماعة القضائية ويشتد عودها دونما ضغط سياسي من خارج القضاء بهدف مقرطته وإخضاعه للرقابة الشعبية. وإلى أن يتحقق ذلك التطور من داخل الجماعة القضائية، فعلى نشطاء التيارات الديمقراطية التعامل بحذر وتحفظ بالغين عند التقرير لتظاهرات أو غيرها من الفعاليات الاحتجاجية أخذًا في الاعتبار أن القضاء لم يعد كما كان خلال السنوات الأخيرة من عهد مبارك متحفزًا لتدخلات السلطة التنفيذية في عمله، بقدر ما أصبح شريكًا لهذه السلطات بل ويسبقها بخطوات أحيانًا.

ثالثا: الوضع الاقتصادي


منذ اللحظات الأولى لتولى عبد الفتاح السيسى رئاسة جمهورية مصر العربية فى يونيو 2014 وجدناه يصر على تبنى نهج إقتصادى توسعى Expansive Economy بزيادة غير مسبوقة لمشاركة القطاع الخاص المصرى والمستثمرين الأجانب، سواء كانوا عرب أو غربيين أو أسيويين. وهذا النوع من الاقتصاد الذى يعتمد فى الأساس على دعم زيادة تراكم الثروة فى أيدى النخب البرجوازية الحاكمة إن أراد أن يكون ناجحاً يجب عليه أن تتسم آلياته بقدر معين من محاباة للطبقات الرأسمالية ومتخذة موقف مبدئى معادى تجاه الطبقات العمالية والفقيرة. ويحدث ذلك بوتيرة لا نبالغ إذا قلنا أن مصر من حيث السرعة لم ترى مثلها من قبل ولا حتى فى عصر سياسة الإنفتاح الكارثية التى نعرفها من حقبة الرئيس الراحل أنور السادات.

وبينما يمكننا بالطبع أن نختلف أيديولوجياً مع هذا الطرح الإقتصادى من أساسه ونرفضه كلياً، خاصة من الجانب الأخلاقى، أو بالأصح غير الأخلاقى لا يمكننا فى الوقت نفسه إنكار أنه توجه موجود وله أسس علمية راسخة من ما قبل أدم سميث حتى وهو ليس خاطئ ولا صائب فى المطلق ويستند إجرائياً وشكلاً من حيث المبدأ إلى مجموعة من التجارب السابقة التى نجح بعضها وفشل بعضها الآخر وربما كانت أفضلها تجربة كوريا الجنوبية منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضى – مع التحفظ على طبيعة نتائجها بالنسبة لغالبية الشعب الكورى على المدى الطويل – وأسوأها التجربة الأرجنتينية أثناء الحكم العسكرى فى نفس الفترة تقريباً.

المشكلة فى مصر إذن ليست مشكلة نظرية أو مبدأ أو منهج، فجميعها قابلة للنجاح بدرجات متفاوتة، على الأقل بالنسبة لشرائح مجتمعية معينة – ولو همشت أخرى فى سبيل ذلك – ويمكنها خلق طبقة عمالية وفلاحية مقموعة ومستعبدة فى الواقع ولكن قادرة فى الوقت نفسه على البقاء حياً وهو أمر مرفوض بكل تأكيد ولكن حتى هذا الهدف القمئ لن يتمكن النظام المصرى الحالى من بلوغه إذا ما استمرت أوضاع الاختلال التام لكافة معايير وموازين أبسط مبادئ العادالة الاجتماعية على ما هى عليه الآن. الأزمة الكبرى فى الوضع الإقتصادى المصرى هى عدم وجود أى رؤية أو تصور بعيد المدى للشكل الذى يبتغى النظام المصرى الوصول إليه حتى بعد خمسة سنوات من الآن بالرغم من خوضه مشاريع قومية محتلفة يزعم أنها مُعدة خصيصاً كى تخدم الأجيال القادمة وطرحه لشعار “مصر 2030” دون أن يتمكن من ملء هذا الشعار بأية محتويات موضوعية يمكن الإرتكاز عليها ولا تمكن من الوصول إلى افتراضات منطقية أو أرقام واقعية من شأنها أن تدعم وعوده الوردية مثل أن يزيد إيراد قناة السويس بمقدار حوالى ثمانية مليارات دولار (حوالى 160%) فى ظرف ثمانية أعوام بعد تشغيل المجرى الملاحى الإضافى الجديد وهو ما يتطلب نمواً فلكياً ومستحيل التحقيق فى تجارة المحيطات العالمية يصل إلى 72% خلال نفس الفترة. وإنعدام الدراسات والإفتراضات المنطقية هى فى الحقيقة شيمات لكافة ما يطلق عليه النظام – دون مبرر منطقى – “مشروعات قومية كبرى” وهو مثلما ينطبق على ما أسموه قناة السويس الجديدة، يطبق أيضاً على استصلاح المليون ونصف المليون فدان والذى لا يوجد له تمويل مضمون ولا مخزون مياه أو ما يكفى من العمالة المؤهلة وبالرغم من ذلك كله يوجد إصرار عجيب على أن يُعرض للناس بإعتباره هو حل رئيسى لأزمات الاقتصاد المصرى المتنوعة فى شكل يذكرنا كثيراً بمشروع توشكى فى العهد الأول لرئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزورى (1996 – 1999).

صحيح أن المشروعات العملاقة هذه بما فيها تحديث وتوسيع شبكة الطرق والعاصمة الإدارية الجديدة وإنشاء محطات توليد الكهرباء بأشكالها المختلفة يمكنها على المدى القصير خلق فرص عمل جديدة وقد تكون بالتالى ذات فائدة على المستوى المُصغر Micro-Economic Levelلفترة زمنية محددة من باب تحفيز نسب الإنفاق الداخلى وتنشيط الأسواق ولكن هذا يتطلب إطار اقتصادى تتوافر فيه الحد الأدنى من مقومات النجاح وإلا كانت نتيجتها ما نراه الآن فى مصر من نسبة تضخم قاربت من 11% ونسبة بطالة تعدت حاجز 12% بوضوح، أى أن الخيارات الاقتصادية للسيسى وحكوماته لم تتمكن حتى من إحداث تأثير إيجابى مؤقت، ناهينا عن المستدام بخلاف التركيز على خلق بنية تشريعية توفر لرؤوس الأموال الحد الأقصى من الحماية (قانون الاستثمار الجديد، قانون تحصين تعاقدات الدولة، إلغاء قانون الضرائب على الأرباح الرأسمالية للبورصة, وضع الحد الأقصى للضريبة على الدخل عند 22.5% بما يفرغ تصاعديتها من معناها، إصدار قانون مطاط للحد الأقصى للأجور بما يجعله غير قابل للتطبيق، تخصيص الأراضى للمستثمرين بالمجان إلخ) بينما يرفض النظام فى نفس الوقت قوانين مثل إطلاق الحريات النقابية للدفاع عن مصالح العمال وقانون بحد أدنى آدمى للأجور ويصر على أخرى مثل قانون الخدمة المدنية الجديد مجحفة فى حق فئات واسعة من بسطاء المواطنين.

حتى مشروعات الطاقة التى يفتخر بها نظام السيسى كثيراً تعتبر إنجازات فنية وهندسية أكثر منها اقتصادية حيث يتم الآن تحميل كلفتها للفئات متوسطة ومحدودة الدخل التى هى بطبيعتها الأكثر تضرراً من عملية زيادة أسعار الكهرباء وتخفيض الدعم على الطاقة بشكل ملحوظ، أى أن المستفيد فى النهاية هو صاحب المصنع أو المنشأة التجارية والتى لا تشكل فاتورة الطاقة سوى نسبة محدودة للغاية من إجمالى التكلفة وحتى إن زادت، لا يعوض صاحب المصنع هذه الزيادة خصماً من أرباحه وإنما يقوم بتحميلها على سعر البيع للمستهلك أو يُقدم على خفض رواتب العاملين أو الاستغناء عنهم تماماً.

وواضح أيضاً أن الهدف الرئيسى الذى يسعى له السيسى من إعلانه لمشروعات قومية كبرى عديدة ليس اقتصادى فى المقام الأول ولكن وظيفته الرئيسية هى الحفاظ على شعبيته الهشة فى ظل تآكلها المستمر على خلفية تردى مستويات المعيشة من ناحية ومن باب الرغبة فى مجاملة كبار أصحاب الأعمال تحت وصاية القوات المسلحة من ناحية أخرى حيث أصبح اقتصاد الدولة مملوك شبه كاملاً للقوات المسلحة، وخاصة هيئتها الهندسية، وتحول باقى قطاع الأعمال فى مصر إلى مقاولين من الباطن يرتهن استمرار وجودهم بمدى رضاء القوات المسلحة عنهم وعن الأرباح التى تدخل خزانتها من خلال ذلك. والحقيقة أن تعاظم دور القوات المسلحة فى المنظومة الاقتصادية االمدنية بمصر لم يعد هو وحده العنصر المثير للقلق، بل يزيد عليه انعدام الشفافية وافتقاد المعلومات الكامل المصاحب لهذه المسألة وتتداخل ميزانية الجيش فى المشروعات المدنية مع ميزانيات الوزارات والهيئات الحكومية المعنية بما لا يسمح غالباً بفصلهما عن بعضهما البعض، لاسيما فى المراحل المتطورة نوعاً من المشروعات. ويبدو واضحاً أن المسألة برمتها بالنسبة للقوات المسلحة لا تقتصر بالمرة على تحقيق مكاسب اقتصادية ولكنها أصبحت تنظر إلى الاقتصاد على أنه أداة للتمكين السياسى وهو ما يزيد بالطبع من خطورة الأمر, خاصة على المدى الطويل كلما زادت درجة التشابك وتزيد معها صعوبة خروج الجيش من المعادلة الاقتصادية فيما بعد حتى لو أخذت الدولة فى يوم من الأيام منحى أكثر ديمقراطية ومدنية مما نراه الآن.

وتؤدى المشروعات القومية الكبرى سالفة الذكر أيضاً إلى خلق صورة مُشوهة تماماً للشكل الاقتصادى فى مصر على وجه العموم من حيث أن زيادة الإنفاق المطرد المرتبط بها يؤدى إلى إرتفاع معدلات النمو والسيطرة بدرجة ما على نسب البطالة إن لم يكن خفضها ولكن دون أن يكون لأى من هذا انعكاس على الاقتصاد القومى ككل لأنه غير مستدام ولا يرتبط بإنتاجية حقيقية لأنها مجرد ظواهر مؤثتة تختفى وينتهى تأثيرها بمجرد انتهاء العمل بها والدلائل التاريخية على كارثية هذا النهج فى الاقتصاد عديدة وتمتد من أوائل دولة هتلر النازية حتى حكم الجنرالات فى الأرجنتين أى أنها كانت دائماً بحكم أنظمة سياسية مستبدة وأودت إلى المأساة الكاملة فى نهاية الأمر.

كما شهد عصر السيسى زيادة سعر الدولار بمقدار يقترب من 3.50 جم فى بعض الأحيان فى ظرف عام واحد فقط وإتساع الفارق ما بين السوق الرسمى والسوق الموازى إلى أكثر من جنيهين مقابل 10 قروش فى منتصف عام 2015. ويعود ذلك إلى الصرف الجنونى من الموارد الدولارية على المشروعات القومية وما تضمن ذلك من ضغط على احتياطى النقد الأجنبى، الأمر الذى كان محل اعتراض واضح من محافظ البنك المركزى الأسبق، هشام رامز ويُرجح أن تكون استقالته أو إقالته قد أتت على هذه الخلفية.

هذا وتمكنت مصر على مدار عامى حكم السيسى من تحسين تصنيفها الائتمانى بشكل عام وإن كان ذلك لا يرجع فى مجمله لأسباب اقتصادية وإنما له دوافع سياسية دولية تتعلق بضغوط تمارسها الشركات المتعددة الجنسيات على مؤسسات التصنيف لتتمكن من الحصول على تسهيلات مصرفية دولية لمشروعاتها فى مصر ولتضمن سداد مصر لما تحصل عليه من قروض لأن أداء الاقتصاد المصرى فى حد ذاته غير مُبشر، خاصة بعد إنهيار رأس المال السوقى للبورصة المصرية بما يزيد بقليل عن 124 مليار جنيه على مدار السنة الأخيرة وهو أداء لا يعكس بالضرورة قيمة الشركات المُقيدة ولكنه بكل تأكيد مُعبر عن أوضاع السوق ويؤثر بالتالى على قدر الثقة فيه من ناحية مؤسسات التمويل الدولية. هذا بعيداً عن أن حصول الحكومة المصرية على المزيد من القروض ليس شيئاً حميداً من الأساس لأن هذه القروض قد تنقذ النظام الآن من الغضب الشعبى لفترة محددة ولكنها أقساطها وفوائدها ستدفعها الأجيال القادمة وخاصة الطبقات الفقيرة والمُهمشة والمقموعة.

وورط نظام السيسى مصر أيضاً فى سياسة فائدة مصرفية لم يعد لها لا ضابط ولا رابط وخرجت عن السيطرة تماماً حيث وصلت مستويات تقارب الــ 15% على الودائع بمختلف الأوعية الادخارية والحسابات البنكية لمواجهة أزمة نقص الدولار التى تسبب فيها النظام نفسه كما أشرت، وهو الأمر الذى انعكس بالسلب على مستويات الإنفاق الداخلى وكذا تكلفة الإقراض. هذا بالرغم من أن أداء المحافظ الائتمانية بالقطاع المصرفى ذات توجه إيجابى بعد مجموعة من الضوابط التى أصدرها البنك المركزى مؤخراً وكان من شأنها التركيز على تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة وهو مُحفز اقتصادى فى حد ذاته وإن كان يحتاج إلى بعض العوامل الأخرى لتسانده.

وبالرغم من أن ارتفاع الدين الخارجى بحوالى مليار و600 مليون دولار من يونيو 2014 وحتى ديسمبر 2015 لا يثير القلق فى حد ذاته إلا أن لجوء الحكومة لزيادة هذا الدين بمفاوضات تجريها حالياً مع مؤسسات تمويل دولية حول قروض بحوالى 5 أو 6 مليارات أخرى يطرح تساؤلات جادة حول وجود أى طرح جدى لدى الحكومة لسد عجز الموازنة غير الإقتراض من الخارج وزيادة الإقتراض الداخلى أيضاً حيث إرتفع الدين الداخلى من ديسمبر 2014 إلى ديسمبر 2015 بمقدار 44 مليار جنيه تقريباً بسبب توسع النظام بدرجة كبيرة فى إصدار أدوات دين حكومية. ويصل الدين العام الكلى بذلك إلى رقم يقترب من 2 تريليون و800 مليار جنيه وهو رقم كارثى بجميع المقاييس لما كان يزيد بقليل عن ثلاثة أضعاف إجمالى الموازنة العامة وهو ما يشير بوضوح إلى أن مصر قد تدخل فى أى لحظة إلى مرحلة الدولة الفاشلة إن عجزت عن خدمة المديونيات المختلفة أو سداد أقساطها. صحيح أن مثل هذا الأمر ليس وارد بقوة فى ظرف العام المالى القادم ولكنه وارد الحدوث فيما بعد يونيو 2017 إن لم تتخذ الحكومة إجراءات فورية وفعالة للحيلولة دون ذلك بأسرع ما يمكن. (2)

ومن المُقلق أيضاً النزيف المستمر لإحتياطى النقد الأجنبى الذى خسر فى فترة حكم السيسى حتى الآن حوالى 400 مليون دولار أمريكى ولولا ما وصل البنك المركزى من ودائع إماراتية وسعودية بالدولار لإنخفض لأكثر من ذلك بكثير، أى أن موارد العملة الأجنبية للدولة لم تزيد ولم تبقى حتى على حالها القديم، بل فى الحقيقة قلت بمقدار 8 مليار دولار تقريباً وهو ما يتسق تماماً مع الزيادة المخيفة وغير المسبوقة للعجز الكلى بالموازنة العامة الذى ارتفع بمقدار حوالى 65 مليار جنيه من الحساب الختامى للعام المالى 2015/2016 إلى ما تتوقعه وزارة المالية فى العام المالى 2016/2017 وغالباً ما يزيد هذا المبلغ مع الحساب الختامى ولو قل فيكون بهوامش بسيطة جداً. وهى زيادة فى العجز أتت بالرغم من عدم مراعاة هذه الموازنة للنسب المقررة دستورياً للإنفاق على الصحة والتعليم (3 و4% على التوالى من الناتج الإجمالى المحلى)، أى أن الحكومة أصرت على التوفير تحديداً فيما يتعلق بالخدمات الرئيسية التى تؤديها لمتوسطى ومحدودى ومعدومى الدخل الذين يتوقف وجودهم على هذه الخدمات. وأضيف إلى ذلك ما يحدث من تقليص للدعم على مستويات مختلفة لا يفرق ولا يميز ما بين الغنى والفقير, بل يحمل الأثنين بنفس القدر. (1)

وسجل الاستثمار الأجنبى المباشر زيادة بلغت 1 مليار و300 مليون دولار فى العام المالى 2014/2015 ثم انخفض مجدداً بمقدار 600 مليون دولار فى العام المالى 2015/2016 وهى جميعها تأرجحات فى نطاق آمن بدرجة كبيرة وتعطى انطباع إيجابى فى المجمل ولكننا فى نفس الوقت لا يمكن أن ننظر إليها بمعزل عن قضية الأجور، أو بالأحرى مأسآة الأجور المتدنية للغاية حيث أن رُخص الأيدى العاملة وعدم وجود قوانين تحميها ولا تضمن لها حد أدنى للدخل هى إحدى العناصر التى بها تجذب الحكومة المصرية المستثمر بالإضافة إلى مُحفزات أخرى مُبالغ فيها سبق الإشارة إليها. ولا يمكن بالطبع فى هذا السياق نسيان ذكر أن الاستثمار الأجنبى المباشر كان يمكن أن برتفع كثيراً لولا الظروف السياسية والمجتمعية فى مصر ومنطقة الشرق الأوسط ككل التى قللت من جاذبيتها الاستثمارية بشكل عام لصالح دول أخرى فى شرق أفريقيا وعلى رأسها تنزانيا وكينيا ورواندا الأكثر استقراراً وأماناً وهى عناصر صارت هامة للغاية فى ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية التى نعيشها حيث يبحث المستثمرون عن الأمان أولاً وأخيراً سواء من حيث البيئة التشريعية المستقرة أو البعد عن العنف السياسى.

ويوضح لنا هذا أن رهانات نظام السيسى كافة على أن ينتشل الاستثمار الأجنبى البلاد من كبوتها كانت رهانات خاطئة، خاصة فى ظل غياب تصور تنموى متكامل يشمل تحسين بيئة الاستثمار وتطوير العمالة. وقد أشار إلى ذلك الكثير من المحللين والخبراء الاقتصاديين وقت أن تولى السيسى السلطة ولكن تجاهل النظام كل تحذيراتهم هذه.

هذا كله بعيداً عن أن إنخفاض أجور العمالة فى القطاعين العام والخاص والأعمال وموظفى الدولة وعدم الاستجابة لمطالبهم المشروعة الهادفة نحو تحسين ظروف معيشتهم البائسة يأتى فى وقت تشهد فيه معاشات وأجور ومكافأت أعضاء السلك القضائى وأفراد المنظومة الشرطية والقوات المسلحة زيادات مُطردة تصل إلى 160% فى بعض الأحيان ومنح للأعياد والمناسبات عشرة آلاف جنيه فى أحيانٍ أخرى وهو ما لا يخل فقط بأبسط قواعد العدالة الاجتماعية ولكنه فى الواقع يهدد السلم المجتمعى ككل. وتأتى أخيراً النواحى الاقتصادية لعلاقات مصر الخارجية والتى غالباً ما تتسم بعدم التكافؤ وإعطاء الاستفادة الأكبر للطرف الأجنبى مهما حاول النظام إظهار مصر على أنها تتعامل الند بالند ولكن تختلف الأشياء على أرض الواقع حينما نجد أن الكثير من المعاملات التجارية فى ظاهرها لا تعود بأية فائدة مالية على مصر، بل هى عبارة عن محاولات تبدو بائسة لشراء الدعم السياسى فى أوقات والمادى فى أوقاتٍ أخرى بعدما أدرك النظام أنه قاب قوسين أو أدنى من العزلة الدولية بسبب مغامراته غير المحسوبة وانتهاكاته المستمرة لحقوق الإنسان وجميع المواثيق والمعاهدات الدولية بما فى ذلك ما وقعت عليه مصر طوعاً. وربما تعطى علاقات مصر مع روسيا وفرنسا أمثلة جلية على صحة ما أقول، خاصة إذا ما قورنت بعلاقاتنا مع دول غربية أخرى مثل إيطاليا والمملكة المتحدة. أما حالة الانبطاح والتذلل التى نعيشها فى ما يربطنا بدول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية لنتسول منهم القليل من الدولارات، فوصلت إلى حالة لم تعد معه مقبولة شكلاً ومضموناً.

وبالرغم من عدم وجود أى أرقام أو بيانات دقيقة يمكن الاعتماد عليها تذهب تقديرات معظم الخبراء تذهب إلى أن الاقتصاد غير الرسمى أو “الاقتصاد الموازى” يشكل ما لا يقل عن ثلث الحجم الكلى للاقتصاد وتقول الدولة أنها تسعى لتقنينه ودمجه بداخل مثيله الرسمى حتى يستفيد القائمون عليه بوضع قانونى وبالتالى تجارى مستقر من ناحية وتزيد المتحصلات الضريبية للدولة من جانب آخر. إلا أن الجهة الإدارية حتى الآن لم تبرز أى تصور واضح عن الآليات والخطوات والإجراءات المطلوبة لإنجاز ذلك. كما يجب التنويه إلى أن ما ورد بأعلى ليس سوى تلخيصاً للصفحات القادمة التى أنصح بالاطلاع عليها من يريد الاستزادة أو الخوض فى أرقام تفصيلية أو الحصول على والتحقق من مصادر المعلومات عبر الهوامش الموجودة فى نهاية هذه الورقة التى لم تتطرق إلا للموضوعات الاقتصادية البحتة وبالتالى لا يوجد بها ما يتحدث عن الحقوق الاجتماعية كمعاش الضمان الاجتماعى أو التخفيضات الموسمية التى تقدمها القوات المسلحة للمدنيين على بعض المنتجات أو إشكالية توافر البضائع بالمجمعات الاستهلاكية إلخ.