نحو تعميق الطابع الديمقراطي للثورة المصرية وفتح أفقها الاجتماعىنحو تعميق الطابع الديمقراطي للثورة المصرية وفتح أفقها الاجتماعى

التقرير السياسي الأول الصادر عن الجمعية العمومة الأولى للأعضاء المؤسسين لحزب العيش والحرية (تحت التأسيس)

مقدمة:

على خلاف الكثير من الثورات الكلاسيكية فى عالمنا الحديث، لم تتمخض تفاعلات الثورة المصرية حتى الآن عن حزب قائد أو جبهة جامعة تتبنى أهدافها وتترجمها فى برنامج أو عدة برامج تسعى للاستيلاء على سلطة الدولة بغية تحقيقها. فقميص الثورة المصرية مازال متنازعاً عليه بين العديد من القوى التى تنتسب لشرعيتها، بينما ينتمى أغلب هذه القوى المتناحرة لمعسكر الثورة المضادة بشكل صريح. هذه الحالة المعقدة لا تنفى أن لهذه الثورة وجهة محددة منذ اليوم الأول، حتى ولو تنازع الفرقاء على قيادتها. الثورة المصرية هى ثورة وطنية ديمقراطية ذات بعد اجتماعي. هى ثورة تسعى لبناء شعب من الأفراد الأحرار المتساويين المنتظمين فى وحدات مدنية طوعية صاحب الحق المطلق فى تقرير مصيره دون إخلال بكرامة مواطنيه دونما تمييز. وعلى الرغم من كونها ثورة سياسية لا تسعى لهدم علاقات السلطة الاجتماعية القائمة واستبدالها بأخرى، إلا أن طابعها الوطنى الديمقراطى هذا هو الوحيد الكفيل بفتح أفق النضال لتفكيك علاقات الإنتاج الرأسمالية كما تطورت فى مجتمعنا على مدى قرنين من الزمان على الأقل وبلورة بديل اشتراكى متكامل على المديين المتوسط والبعيد يسمح بتحرر كامل للإنسان من ربقة عبودية رأس المال ودولته الحديثة. نحن هنا لا نتحدث عن “مرحلة وطنية ديمقراطية” يجب أن تسبق أى نضال ضد نمط الإنتاج الرأسمالي، بقدر ما نتحدث عن سياق من النضال الديمقراطى هو الوحيد الكفيل بتعميق هذا البعد الاجتماعي وبلورة وجهته. بعبارة أخرى، لا يمكن التفكير فى البعد الاجتماعي للثورة المصرية دونما النضال من أجل انجاز أهدافها السياسية ولا يمكن إنجاز هذه الأهداف إذا تم فصلها تعسفياً عن أفقها الاجتماعي.

هذه الثورة فى أزمة… ويبدو لكل ذى عينين أن طموح هذا المجتمع المدنى الديمقراطى التعددى العادل يغدو أبعد فأبعد، وأن عود معسكر الثورة المضادة يشتد ويزداد ثقة فى هجماته المتتالية التى لم تتوقف منذ تنحي مبارك. لهذا يطرح حزب العيش والحرية (تحت التأسيس) على جميع القوى الديمقراطية التى تناضل بهدف استئناف مسار الثورة المصرية رؤيته لأسباب تعثر هذه الثورة وسبل تجاوز هذا التعثر وكيفية بلورة بديل سياسى جماهيرى يسند مشروعها والتى يمكن تلخيصها فى النقاط التالية:

– يرى الحزب أن الثورة المصرية ما كان لها أن تتعثر إلا نتيجة الضعف التنظيمى الفادح للأنوية الديمقراطية التى كان من المفترض بها التصدي لقيادتها، وأن هذا الضعف لا يمكن فهمه بالتركيز على إخفاقات هذه القوى وفقط ولكن يجب وضعه فى سياق أزمات وتناقضات النمو الرأسمالى ومحاولات التحرر الوطنى التى أورثتنا أوضاع تتسم بمزيج من التخلف والسلطوية والأبوية والطائفية والتى انعكست بدورها على الوضع التنظيمى المشار إليه.

– فى هذا السياق كذلك، يشدد الحزب على الأثر السلبي الذى خلفه السياق العالمى والإقليمى الذى أحاط باندلاع الثورة المصرية وهو سياق يتسم بأزمة اقتصادية طاحنة وتنكراً صريحاً للمكتسبات الديمقراطية وزيادة غير مسبوقة فى أثر الفوائض الريعية النفطية وما يستتبعه ذلك من تعاظم التأثير السياسى لقوى الخليج الرجعية. حاصل جمع هذه العوامل كان يعنى استحالة الوصول لحل وسط تاريخى مع الكتلة الحاكمة فى مصر، إذ أن تلك الأخيرة لم تمتلك ما تعرضه على الجماهير الغاضبة – المشتتة تنظيمياً- وبالتالى كانت استراتيجية القمع والاحتواء هى الاستراتيجية المعتمدة والمقبولة برعاية المراكز الرأسمالية العالمية والإقليمية.

– يرى الحزب أن راية مشروع القمع والاحتواء ذاك قد تنقلت بالتناوب أكثر من مرة بين الطبقة السياسية القديمة ومنافسها التقليدى: تيار الإسلام السياسى. ويشدد على أن كل مرحلة اعتمدت على الإرث السياسى والأيديولوجى لقادتها، فمن وطنية تلفيقية بائسة للمجلس العسكرى إلى شمولية دينية خلال فترة مرسى إلى طبعة أكثر بؤساً وأبوية وانحطاطاً من الوطنية بعد 3 يوليو 2013. ونرى أن كل مرحلة كانت أكثر قمعاً ودموية من سابقتها أخذاً فى الاعتبار عمق الأزمة التى تواجهها الكتلة الحاكمة ومدى تفسخها الداخلى.

– يشدد الحزب على ألا مخرج من هذا التعثر إلا ببناء قطب وطنى ديمقراطى يجسد طابع الثورة المصرية فى صيغة استراتيجية للعمل الجماهيرى وبرنامج سياسى ديمقراطى تشاركى اجتماعى وتحالفات موقعية عريضة تستهدف وحدة كل القوى الديمقراطية.

– على صعيد العمل الجماهيرى، يرى الحزب أن المهمة الأساسية لمناضليه هى الانخراط فى بناء منظمات جماهيرية ديمقراطية مكافحة تحمل عبء استكمال النضال لتحقيق أهداف الثورة المصرية. ويسعى لتجنب منزلقين: المنزلق الدعائى القائم على التظاهر المتواصل أملاً فى استنساخ لحظة 25 يناير 2011 ومنزلق العمل الحزبى المنفصل عن مسار النضال القاعدي، والذى لا يحركه إلا هاجس عودة الإخوان للحكم. كلا الاستراتيجيتين يعدا بمثابة مدخل ملكى للعزلة الكاملة.

– على صعيد البرنامج السياسى، يناضل الحزب بهدف بناء ديمقراطية تشاركية فى كل موقع تسعى لتمكين جمهور العاملين والمستغلين من تحديد طبيعة ووجهة السياسات العامة المتحكمة فى معاشهم. هذه الممارسة الديمقراطية هى بحد ذاتها طريقنا لبلورة مشروع تنموي قائم على إخضاع آليات النمو ووجهته لأولويات هذه الجماهير كما تحددها فى ممارساتها الديمقراطية المستقلة. وهو نمط يسعى للقطع، من جهة أولى، مع واقع التبعية المستقر فى مصر والذى يعيد إنتاج بنية الاقتصاد المتخلفة والهامشية فى السوق الرأسمالى العالمى، وكذلك للقطع، من جهة أخرى، مع أنماط التحديث السلطوى التى صادرت المشاركة الشعبية باسم التنمية فانتهت إلى مزيد من التبعية والتهميش والإفقار والتسلط.

– ومن الناحية الجبهوية، فإن الحزب يسعى للعمل مع طيف عريض من المنظمات الجماهيرية والسياسية يمتد من وسط المجال السياسى المصرى حتى أقصى يساره، وهو الطيف الذى يتمثل هذه الطبيعة الوطنية الديمقراطية للثورة المصرية دونما مساومة أو تمويه. وبالتالى فحزبنا خصم طبيعى لعموم التيار الإسلامى ولعموم قوى اليمين المدنى المتطرف أو اليمين الليبرالى الجديد. ويرى أن إمكانية نشأة تيار إسلامى ديمقراطى، مرهونة ببلورة هذا القطب الوطنى الديمقراطى ابتداءاً وممارسته للضغط على قواعد كلا التيارين عبر ممارسة صراعية بالأساس.

تقتضى قائمة الأحكام تلك شيئاً من الشرح المفصل…

طبيعة الثورة المصرية… المقدمات:

هذه الثورة تمثل حلقة جديدة من حلقات النضال الوطنى الديمقراطى فى مصر والذى نشأ مع استنبات علاقات الإنتاج الرأسمالية والدولة الحديثة فى مصر. ولدت هذه الثورة، كغيرها فى التاريخ المصرى الحديث، من رحم فشل مشاريع التحديث المختلفة التى تعاقبت على مصر والتى هدفت جميعها إلى اللحاق بالنموذج الرأسمالى كما تحقق فى المراكز الرأسمالية الكبرى – كما لو كان هو النموذج المرجعى للتطور. إلا أن هذه المحاولات قد أخفقت جميعها فى تحقيق هدفها المعلن ذاك، إذ كانت هذه المشاريع بدورها مؤسسة على سلسلة من التناقضات التى حكمت عليها بالفشل الدائم.

فبينما كان الهدف المعلن لأول طبعة من مشاريع التحديث فى منتصف القرن التاسع عشر هو القضاء على علاقات الإنتاج الإقطاعية المتخلفة المتوارثة منذ العصور الوسطى بهدف دفع التطور الرأسمالي، اعتمدت استراتيجية التطور الرأسمالى التى اتبعها كبار الملاك والرأسمالية المحلية الصاعدة على الانخراط فى السوق الرأسمالى العالمى من موقع هامشى معتمد بشكل حصرى على تقسيم دولى للعمل محدد سلفاً إلى الحد الذى فرمل إيقاع التطور الرأسمالى نفسه وأبقى على هذه الملامح المتخلفة للاقتصاد لعقود طويلة ضمنت مزيداً من التأخر عن المراكز الرأسمالية العالمية. وبينما كان الهدف المعلن هو بناء دولة مواطنة حديثة وتفكيك بنى التخلف الثقافية والسياسية، اعتمد المشروع الوطنى منذ بدايته على فهم للهوية الوطنية امتزج بفهم محافظ للإسلام وأبقى على العلاقات الأبوية فى محيط الأسرة مثلاً، وهى العلاقات التى عادت لتغذى نمط العلاقات الرأسمالية المستغلة تلك. كما استبقى نفس المشروع العلاقات الطائفية الضاربة بجذورها عبر التاريخ لتعود مرة أخرى كممارسات تمييزية حاضرة فى التشريع والسياسة منذ اللحظة الأولى لميلاد الدولة الحديثة. لم يكن ذلك انحرافاً عن نموذج رأسمالى متكامل أو ليبرالى ناجز، بقدر ما كان ذلك هو ما طرحته الرأسمالية على مجتمعاتنا منذ البداية، أى تنمية من موقع هامشى تتعايش مع بنى التخلف تلك وتتغذى عليها.

المحاولات التى أعقبت الاستقلال الإسمى لمصر فى خضم ثورة 1919 تحت قيادة بورجوازية مصرية تسعى للسيطرة على السوق المحلى والتصنيع المحدود فى ضوء احتياجات السوق العالمى، لم تفلت بدورها من تعميق هذا الطابع البنيوى للتخلف والأبوية فى مجتمعاتنا وأدت تنميتها المحدودة تلك إلى اتساع فى نسبة المتعلمين الساخطين على الأوضاع المعيشية وواقع التهميش والتمييز الطبقى الفج.

فتحت هذه التناقضات الباب واسعاً لانتعاش طيف من الأيديولوجيات المناهض لخطاب التحديث الليبرالى ذاك والساعى لاستكشاف طريق بديل. تعثر “النهوض الوطنى” هنا تم نسبته إلى عطب فى آليات الديمقراطية الليبرالية وغربة ثقافية لنخبها عن جمهور المواطنين. ومن رحم هذا الطيف الأيديولوجى صعد ظباط الثالث والعشرين من يوليو إلى سدة الحكم عام 1952 لتنفيذ مشروع متكامل للتحديث يهدف إلى دفع النمو الرأسمالى وتحقيق قدر من العدالة الإجتماعية عبر التضحية بالديمقراطية وإخضاع عموم السكان لبرنامج تأهيل قسرى يخطط لحياتهم وفقاً للنموذج الهوياتى المحدد سلفاً. استفادت النخبة التى قادت حراك يوليو 52 من ظرف عالمى مختلف يتسم بقطبية ثنائية وانكفاء للمراكز الرأسمالية الغربية على ذاتها فى انكماش طويل سمح لهامش من التوسع فى التصنيع استفادت منه الكثير من الخبرات فى الجنوب خصوصاً فى أميركا اللاتينية والتى ابتدعت حكوماتها فى هذا الوقت ما أسمته بسياسة “الإحلال محل الواردات”، أى التصنيع للوفاء باحتياجات السوق المحلى.

وضع مشروع يوليو 1952 ملامح الهيكل السلطوى الذى يحكم ممارسة السياسة فى بلادنا حتى الآن، والمتمثل فى مصادرة الحق فى التنظيم الطوعى الحر والاستعاضة عنه بهياكل إدماجية ذات عضوية جبرية كاتحاد واحد للعمال أو اتحاد واحد للجمعيات التعاونية الزراعية أو للجمعيات الأهلية وهكذا. اقترن ذلك بمصادرة الحياة السياسية التنافسية السابقة، على علاتها، والاستعاضة عنها بصيغ مختلفة من الحزب الواحد الذى تحول لساحة تجنيد عناصر الطبقة السياسية الجديدة لتحل محل كبار ملاك الأراضى وحلفائهم من المتعلمين “القدامى” إن جاز التعبير. وأخيراً، أسست هذه الحقب لهيمنة أجهزة الأمن السياسى على مجمل ممارسات الحكم فى مصر وتحولها عملياً لأحزاب حاكمة.

هذا النموذج الناصرى على الرغم من تحقيقه للكثير من المنجزات الاجتماعية، إلا أنه وقع ضحية الأفق المحدود للطبقة الوسطى المتعلمة التى أطلقته. فلم تحاول النخب التى استلمت زمام الحكم بشكل نهائى منذ منتصف الخمسينيات الخروج عن مألوف تجارب النمو المتعارف عليها فى هذا الزمن والتى كانت تتحرك فى إطار نفس الأفق المتاح فى السوق الرأسمالى العالمى كما سبق الذكر. فتدخل الدولة فى الإنتاج كان لدعم الطابع الاستهلاكى للتصنيع والذى أسفر عن مزيد من الاعتماد على الخارج مع توسع التصنيع نفسه فيما يشبه الحلقة المفرغة. أما إجراءات الإصلاح الزراعى فلم تستطع أن تتجاوز أفق رسملة علاقات الإنتاج فى الريف بينما لم تفتح الباب لتحدى هذه العلاقات نفسها نتيجة مصادرتها للتنظيمات الحرة الطوعية للفلاحين. تنظيمات يوليو البيروقراطية نفسها هى التى سمحت بإعادة انتاج نفوذ النخب السياسية الريفية التقليدية بما ضمن الحد من الآثار التحررية لقرارات الإصلاح الزراعى. التوسع فى التعليم لم يقترن بمسائلة الملامح المحافظة الموروثة لمشروع التحديث المصرى، فظلت الدولة راعية لطبعة محافظة من الخطاب الإسلامى وظلت العلاقات الطائفية والرؤية الرسمية لدور المرأة محدودة بالأفق الضيق لآباء التحديث المصريين أنفسهم.

وبالتالى كان من المنطقى أن النخب المستفيدة من هذه الإصلاحات الاجتماعية تقود هى نفسها الردّة الكاملة عن الخط التحديثى الناصرى والعودة إلى نموذج من الحكم والتنمية يتشابه مع ما سبق 1952 فى انحيازه الطبقى الفج وتناغمه الكامل مع أوضاعه الهامشية فى السوق العالمى، إلا أنه يختلف عنه فى تنكره لأى ملمح ديمقراطى ليبرالى حتى ولو شكلى، واعتماده بشكل كامل منهج أوليجاركى فى الحكم –أى استئثار قلة من أصحاب النفوذ والثروات بتقرير مصير الغالبية الكاسحة من الشعب المصرى- وعلى خطاب ثقافى أشد انحطاطاً ومحافظةً من الخطاب النخب التى قادت حراك يوليو 1952.

الكتلة الحاكمة الجديدة تلك تكونت من تحالفات لأجنحة من البيروقراطية العسكرية والمدنية مع بعض الرأسماليين الصناعيين القريبين من مراكز الحكم الأمنية وكبار ملاك الأراضى الجدد، شكلوا قيادة لطبقة سياسية تشكلت من رحم الحزب الواحد بأطواره المختلفة. جوهر برنامج هذه القيادة كان الانخراط الكامل فى السوق الرأسمالى العالمى من نفس الموقع الهامشى الذى تحول لمجرد مصرف للفوائض النفطية دون عملية تنمية ترقى للمستويات التى وعدت بها النخب الناصرية. حدث ذلك بالتناغم مع تحول جوهرى فى عدد من المراكز الرأسمالية العالمية التي يرتبط بها الاقتصاد المصرى بشكل وثيق نحو تبنى سياسة ليبرالية جديدة تسعى لتحميل الطبقة العاملة فى هذه الدول أعباء أزمة الكساد التى ضربت اقتصاديات هذه البلدان وتراجع معدلات النمو الصناعى بها. الحل لهذه المعضلة، من وجهة نظر آباء الليبرالية الجديدة، كان فى دورة جديدة من النمو الرأسمالى تعتمد على القطاع الخاص بشكل حصرى وتخفض من الانفاق الحكومى الذى توسع بشكل غير مسبوق خلال “حقب الرفاه” فى هذه المراكز. بدا أن مصر تتحول خلال تلك الفترة لمختبر كبير للكثير من السياسات التي ستجتاح المراكز الرأسمالية الأساسية مع منتصف الثمانينيات. وعلى مستوى السياسة الخارجية تمخض هذا التحول عن لعب هذه النخب لدور الوكيل الحصرى للمصالح الأمريكية فى المنطقة مع إمارات ومشيخات الخليج.

أما على المستوى السياسى تدعم الطابع الأوليجاركى للحكم عن طريق التخلى عن صيغة الحزب الواحد بهدف التحلل من الالتزامات المالية على كاهل هذه النخب والاستعاضة عنه بصيغة ديكورية للتعددية الحزبية وتحويل الطبقة السياسية نفسها لمجرد تابع ذليل تكاد أن تكون مهمته شبه الحصرية هى الابقاء على الديكور الديمقراطى قائماً والتمويه على جوهره السلطوى. أما باقى الهياكل الإدماجية فتركت لتتخوخ من الداخل ويتحول دورها شبه الحصرى إلى محاصرة الحراك الجماهيرى الشعبى أو بالأحرى تحولت لمجرد مكاتب ملحقة بأجهزة الأمن السياسى.

تدعم الطابع الريعى للاقتصاد المصرى بشكل كبير منذ هذا التحول وألقى بظلاله على التشكيل الاجتماعى المصرى خلال حكم مبارك خصوصاً مع اتجاهه لتعميق الطابع الليبرالى الجديد للاقتصاد المصرى بالاعتماد المتزايد على الفوائض الخليجية. حيث ارتفعت مثلاً نسبة تحويلات العاملين بالخارج، والقيم الأكبر منهم بالخليج بالطبع، إلى حوالى 15 % من الناتج القومى الإجمالى مع بداية التسعينيات قبل أن تستقر ما بين 5% و 6% فى الولاية الأخيرة لحكم مبارك. كذلك انخفضت نسبة العاملين فى القطاعات الانتاجية بشكل كبير، فانخفضت نسبة العاملين فى القطاع الزراعى مثلاً من 40% فى 1990 إلى حوالى 30% خلال الولاية الأخيرة لمبارك والنسبة آخذة فى الانخفاض. كذلك انخفضت العمالة الصناعية إلى 11% فقط من جسم العمالة المصرية خلال نفس الفترة، فى حين قفزت نسبة العمالة فى قطاع التجارة والخدمات إلى حوالى 27%، هذا بدون حساب العمالة فى القطاع غير الرسمى. الأخطر أن نسبة إسهام الصناعة فى الناتج القومى الإجمالي قد انخفضت إلى حوالى 9% خلال نفس الفترة، وانخفضت نسبة الزراعة إلى أقل من 6% فى حين زادت نسبة مساهمة الغاز فى تكوين الناتج القومى الإجمالى إلى حوالى 9% ونسبة عائدات قناة السويس إلى حوالى 5% فى نفس الفترة. وللوقوف أكثر على الوضع الهش للاقتصاد المصرى فى علاقته بالسوق الرأسمالى العالمى فقد شكلت 12 سلعة مصرية فقط نسبة 59% من هيكل الصادارت سنة 2003 مع بداية حكومة نظيف فى مقابل 37 سلعة عام 1990.

قادت هذا الكتلة بالتوازى مع ذلك عدة هجمات متتالية لتصفية مكتسبات التنمية الناصرية المحدودة خلال عهد مبارك. الهجمة الأولى أتت مع بداية التسعينيات مع البدء فى سياسة خصخصة قطاع الأعمال العام مع عام 1992 ثم امتدت إلى القطاع الزراعى مع إقرار قانون تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر عام 1997 والذى أدى لتحولات هيكلية فى غير مصلحة صغار الملاك والمستأجرين وتبعه قانون تحرير إيجارات الشقق السكنية والعقارات. وأخيراً مع آخر حكومات مبارك، امتد الهجوم ليشمل خصخصة المرافق العامة، كهيئة التأمين الصحى 2007 وأموال التأمينات الاجتماعية، وتحميل الشرائح الأفقر مزيداً من الأعباء الضريبية وفقاً لقانون الضريبة الموحد عام 2005. اقترن كل هجوم مع تدعيم الطابع الأوليجاركى والقمعى لممارسات الحكم إلى الحد الذى بلغت به الفجاجة سعى هذه الكتلة لتوريث منصب الرئاسة إلى جمال مبارك.

كان حصاد هذه السياسات متناقضاً. فمن زاوية توسعت الطبقة الوسطى المتعلمة توسعاً كبيراً وأخيراً وألقى بها فى سوق عمل شرس بدون تأهيل يذكر. فمع أعلى نسبة نمو للاقتصاد المصرى منذ التحول للنيوليبرالية والتى بلغت حوالى 8% عام 2006، ظلت نسبة البطالة وفقاً لأشد التقييمات تفاؤلاً حوالي 4% من قوة العمل وتتزايد فى أوساط الشباب والمتعلمين. هذا بخلاف عودة معدلات التضخم للارتفاع لتصل لمتوسط 7% خلال الولاية الأخيرة لمبارك. وانعكس ذلك بالطبع على زيادة معدلات الفقر، خصوصاً فى المناطق الريفية والتى وصل بها الفقر لنسب تتراوح من 50% إلى 52% فى حين عاش 41% من المصريين فقراء خلال الولاية الأخيرة لمبارك.

فى المقابل لم تقدم الكتلة الحاكمة أى قنوات للمشاركة السياسية تسمح باستيعاب هذه الطاقة المعطلة. على العكس، استمر التفكيك الكامل للهياكل الإدماجية وحصار أى أنوية جديدة قد تشكل حاضناً لأى شكل من أشكال العمل الجماعى. ومن ناحية أخرى، فبينما أدى التوسع فى التعليم والهجرة من الريف للمراكز الحضرية الكبرى إلى تفكك واضح فى العلاقات الأبوية التقليدية التى أبقت عليها الكتلة الحاكمة وسعت لتمثيلها فى هياكل الدولة، كان الخطاب الرسمى مازال على محافظته ومحدوديته بشكل عميق.

فى مواجهة تحولات الكتلة الحاكمة تلك، وبالتناغم معها فى أحيان أكثر، أعيد اختراع الخطاب الإسلامى التقليدى كمشروع منافس لخط الكتلة الحاكمة فى النمو والحكم، يطرح جدارته فى قيادة نفس المسار الذى اختطته هذه الكتلة لنفسها ولكن مع تعميق الطابع السلطوى والقمعى والمحافظ والطائفى للحكم. اعتمدت الحركة الإسلامية فى صعودها الثانى على إحباطات الجيل الجديد حديث التكون من الطبقة الوسطى. سادت علاقة من التعايش القلق مع الجسم الرئيسى من الحركة الإسلامية، وفى القلب منه جماعة الإخوان المسلمين. أما الفصائل التى جنحت للعنف فقد تعرضت للقمع بمجرد أن توجهت بنادقها لرموز الكتلة الحاكمة وأجهزة قمعها، فى حين تم التساهل، بل والتواطؤ، مع جرائمها طالما اتجهت ضد الأقليات الدينية أو النساء.

هكذا ارتسم المشهد عشية الثورة المصرية على إيقاع الفشل تلو الآخر لمشاريع التحديث. وبالعلاقة مع هذا العامل المحدد توزعت الخريطة السياسية بين ثلاث قوى رئيسية لا تطرح إلا صيغ مختلفة من مشاريع التنمية المحدودة بحدود السوق الرأسمالى العالمى والطابع الأوليجاركى المحافظ للحكم ودرجات متفاوتة من الاستغلال الفج والطبقية السافرة. من جهة أولى، تمترست أغلبية الكتلة الحاكمة وأشياعها من بقايا الطبقة السياسية القديمة وبعض الروافد الجديدة من مثقفى الطبقة الوسطى، خلف صيغة منحطة من منهجها الأوليجاركى فى الحكم والنمو. ومن جهة ثانية، تمترست الحركة الإسلامية بمختلف أطيافها حول مشروع محافظ ذى ملامح شمولية لا تخطئها العين لا يطرح أى تناقض يذكر مع منهج المشروع النيو ليبرالى المعتمد من قبل المؤسسات المتحكمة فى مسار التنمية عالمياً. بل على العكس، بدا أن التيار الإسلامى يستعيض عن غياب أى برنامج لتنمية تستحق اسمها بالإغراق فى حديث الهوية وتغذية الميول الطائفية فى ظل سياق دولى أثبت قدرته على التعايش مع، بل والاستثمار فى، الصراعات المذهبية والطائفية فى المنطقة منذ غزو العراق. فى هذا السياق بدا الإخوان ومن خلفهم عموم الطيف الإسلامى حلفاء محتملين للغرب فى سياق التنافس الدولى مع روسيا والإقليمى مع إيران وحلفائها ومكافحة خطر الإرهاب والحفاظ على أمن إسرائيل.

من ناحية ثالثة وأخيرة، استمر الخطاب القومى ذى الطبعة الناصرية فى الهيمنة على قطاع معقول من القوى المعارضة لكلا القوتين الرجعيتين، وإن كان قد انحسر بشكل شبه كامل عن التواجد فى أوساط حاضنه التاريخى من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة علاوة على وقوعه فريسة تناقضاته التاريخية نفسها التى حالت بينه وبين طرح بدائل جدية لمأزق التنمية والحكم الذى عصف بالكتلة الحاكمة خلال السنين الأخيرة لحكم مبارك.

يتضح أن التيارات الثلاثة إما أنها قد نالت حظها من الحكم وفشلت فشلاً ذريعاً أو أنها لا زالت تتمسك بمقاعدها بحكم القمع السافر والنهب المنظم أو أنها تزاحم على موقع فى سدة الحكم بعد أن ساهمت بأدوار أقل شأناً فى الهيمنة الأيديولوجية خلال الطور الأخير من نظام يوليو 1952. فى المقابل، يتضح كذلك أن تغييب هذا المشروع الوطنى الديمقراطى يتحمل القسط الأعظم من المسئولية عن المأزق التاريخى الذى دخلته المجتمعات العربية. فغياب الديمقراطية كان مسئولاً بشكل كبير عن فشل المشروع الناصرى وإعادة انتاج نفس بنية التخلف والتبعية التى ثار عليها ظباط يوليو أنفسهم، وهو المسئول كذلك عن تحكم المشروع الإسلامى فى المجال العام عبر حصده لولاء القسم الأكبر من القطاعات الساخطة على فشل الكتلة الحاكمة المقيم.

إلا أن هذا النضال الديمقراطى لم ينقطع منذ تعثر المشروع الناصرى، ومع تعمق أزمة الحكم والتنمية تحت قيادة الكتلة الحاكمة بدأ يكتسب محتوى جديد ويغتنى من دعم روافد اجتماعية جديدة. فكما سبق الذكر، أدت سياسات الكتلة الحاكمة لتوسع كبير وأخير للطبقة الوسطى وتآكل فى الهياكل التعبوية التى كان من المفترض أن تؤطر مشاركتهم السياسية. على الرغم من نجاح الحركة الإسلامية فى استثمار هذا الإحباط المتنامى فى شكل رصيد سياسى متعاظم، إلا أن المشروع الديمقراطى استطاع كذلك أن يجد لنفسه موطئ قدم معقول داخل هذا الشرائح والفئات اعتماداً على ثورة تكنولوجية هائلة سمحت بتفكيك الخطاب الرجعى الإسلامى وتهديده بشكل مباشر، والأخير خطاب متقادم بدا فى نظر الكثيرين من هؤلاء الشباب، عن حق، كأحد منتجات الماضى الساعى للتحكم فى مصير الأحياء. كان الملمح الطائفى المغلق الذى اكتسبته تنظيمات كالإخوان المسلمين وتدعم نفوذ الفئات الرأسمالية بداخلها على حساب الشرائح الأكثر فقراً والأقل حظاً عاملاً إضافياً لنفور قطاعات متعاظمة من شباب المتعلمين إذ بدت كصورة معكوسة لواقع الكتلة الحاكمة ذات الطابع الأوليجاركى.

بالتوازى مع ذلك أطلقت الهجمة الشرسة على ما تبقى من مكتسبات الناصرية الاجتماعية وتحلل هياكل المشاركة الرسمية موجة من المقاومة فى صفوف الشرائح الأفقر من جمهور العاملين بأجر سواء فى القطاع الرسمى أو القطاع غير الرسمى، هذا بخلاف مقاومة الجمهرة الواسعة من سكان أحزمة البؤس الحضرية المهمشة لهذه الهجمة التى استندت فى هذه الحالة إلى كل مخزون الممارسات القمعية للشرطة المصرية وتواطؤ مؤسسات العدالة.

العلاقة بين هذه الروافد السابقة يصعب رصدها أو اشتقاقها بشكل تلقائى، ولكنها كانت علاقة تناظر إن جاز التعبير وإفادة متبادلة بشكل لا واعى فى البداية قبل أن تتطور العلاقة لتطرح ملمحاً اجتماعياً واضحاً للمشروع الديمقراطى المطروح من قبل شباب الطبقة الوسطى المتعلم ولتطرح ملمحاً ديمقراطياً واضحاً للنضالات الاجتماعية. فى السنين الأخيرة من عمر حكم مبارك بدأت ملامح المشروع الوطنى الديمقراطى الجديد تتبلور بوضوح حول ظواهر كحملة البرادعى للرئاسة وغيرها من التجمعات الشابة.

وعبر الفجوة ما بين ضرورة تجديد مشروع الكتلة الحاكمة وبين العجز عن تشكيل طبقة سياسية جديدة نتيجة انسداد شرايين النظام بشكل كامل استطاعت هذه الطلائع الوطنية الديمقراطية أن تشن هجومها المباغت فى الخامس والعشرين من يناير رافعة شعارات الثورة الوطنية الديمقراطية.

فى طبيعة الثورة المصرية…. المسار والأزمة:

يمكن استخلاص أهم ملامح أزمة الثورة المصرية من تأمل العرض السابق. يشى هذا العرض بأن الثورة المصرية قد أتت متأخرة عن ميعادها بعض الشئ إن جاز التعبير. فعلى خلاف موجة التحول عن السلطوية التى شملت مجتمعات وثيقة الشبه بالسياق المصرى فى نهاية الثمانينيات، أتت الثورة المصرية فى ظل أزمة اقتصادية عالمية طاحنة وموجة انكماش غير مسبوقة لا تسمح بتبنى المؤسسات المتحكمة فى حركة رأس المال لأى برنامج إنعاش على طراز برامج الاتحاد الأوروبى فى حالة جمهوريات أوروبا الشرقية. كما أن تدفقاً للاستثمار الأجنبى المباشر يقود عملية تنمية متكاملة، كما تقول الأساطير النيوليبرالية، لم يعد ممكناً فى ظل موجة الانكماش تلك. بالتوازى مع ذلك كان الحل الوحيد المطروح من قبل الكتل الحاكمة فى هذه المراكز الرأسمالية هو مزيد من الإجراءات النيوليبرالية متمثلة فى سياسات تقشف غير مسبوقة مقترنة بالانقلاب على المكاسب الديمقراطية التى انتزعتها الجماهير العاملة فى المراكز الرأسمالية والأطراف الأكثر تطوراً. حالة اليونان مثلاً كاشفة فى هذا الإطار، إذ استخدم الاتحاد الأوروبى سلاح الابتزاز الصريح لإفشال حكومة يسارية منتخبة انتخاباً حراً نزيهاً نتيحة نواياها المعلنة بمراجعة برامج التقشف المفروضة على اليونان بهدف جدولة ديونها. وفى بريطانيا، أعرق ديمقراطيات العالم، تم مواجهة صوراً مختلفة من الاحتجاج الجماهيرى على سياسات التقشف بالقمع الوحشى الذى أدى لوفاة عدد من المتظاهرين على بعد أمتار من ويستمنستر.

حاصل جمع العاملين السابقين كان يعنى أن إمكانية الوصول لحل وسط تاريخى مع الكتلة الحاكمة وحلفاءها الإقليميين ورعاتها الرأسماليين فى حكم المستحيل تقريباً إذ أن هذه الأطراف جميعاً لم تكن تملك ما تقدمه للجماهير الغاضبة، أو على الأقل، لم تكن هذه الجماهير على استعداد لازدراد الأوهام المصاحبة للفتات الذى عادة ما يلقى لها فى مثل هذه الحالات. وفى المقابل كان الميل العام الغالب فى هذه المراكز هو ضرورة احتواء هذه الثورات بأى طريقة ولجمها فى حدود “الكرنفالات” الاحتفالية إذا جاز التعبير. لم يكن هذا وقت الثقة المفرطة التى تعاطت بها النخب السياسية الغربية مع ما يحدث فى العالم من انتفاضات ديمقراطية ومحاولة تعميقها والنظر إليها على أنها انتصار للقيم الديمقراطية كما كان الحال مع نهاية الثمانينيات. رأسماليو اليوم أكثر ضيقاً بالديمقراطية من أى وقت مضى ولم يكن فى الإمكان أى صفقة تاريخية شبيهة بما تم انجازه فى سياقات أخرى. كذلك أتت الثورة فى ظل اعتماد متزايد للاقتصاد المصرى على الفوائض النفطية مما يجعله رهينة لتدخلات سياسية لأكثر الأطراف محافظة ورجعية فى العالم تقريباً!

أما على المستوى الداخلى، فخصوصيات السلطوية المصرية كانت حاضرة في مشهد انهيار الديكتاتور. فتآكل هياكل المشاركة التقليدية، بل ومختلف الروابط المدنية فى الحقيقة، كان يجرى بمعدل أسرع بكثير من معدل نمو الأنوية المدنية الديمقراطية. كل من شارك فى الفعاليات التالية على تنحى مبارك يتذكر كيف كان واقع الممارسة المدنية أكثر احباطاً بكثير مما توحى به الإمكانيات الموجودة فى الواقع. ست عقود من الأوليجاركية والمحافظة والسلطوية كانت تقف كحجر عثرة أمام نمو هذه الأنوية الجديدة.

نتيجة لهذه العوامل مجتمعة تشكل مشروع الثورة المضادة سريعاً فى طوره الأول والمتمثل فى احتواء الثورة والتمسح بشرعيتها عن طريق الشراكة مع المنافس التاريخى للكتلة الحاكمة، التيار الإسلامى، على أرضية نفس المشروع التابع المتخلف. هنا تواطئت القوى الغربية والخليجية مع “قلب الدولة الصلب” والضامن التاريخى لمشروع التنمية التابعة ذاك على هذا السيناريو فى مواجهة قوى الثورة الديمقراطية الصاعدة وبهدف فصلها عن محيطها الأوسع واحتواء حركتها. فى ظل بنود هذه الشراكة غير المعلنة تملأ الحركة الإسلامية الفراغ الناشئ عن تفكك الطبقة السياسية القديمة وتلعب دورها فى حين تسمح الكتلة الأوليجاركية الطابع لوجوه الحركة الإسلامية بالحركة فى السوق المحلى مقابل استعادة بناء الجهاز القمعى على نفس شاكلته دونما إصلاح أو إعادة هيكلة بهدف استئناف نفس مسار القمع.

فى المقابل، سهّل التشتت التنظيمى والتخبط السياسى لقوى الثورة الناشئة من مهمة مشروع الثورة المضادة. فقد توزعت التجمعات الثورية الناشئة على رؤيتين رئيسيتن أسهمتا فى تسهيل مهمة مشروع الثورة المضادة. الرؤية الأولى، والتى شملت غالبية العناصر الثورية على يسار المشهد، عبرت بشكل أو بآخر عن ضيق مبكر جداً بآليات الديمقراطية الإجرائية وسعيها إلى انجاز ما تراه أهداف الثورة بالكامل عبر سلسلة من التظاهرات تستنسخ جميعها نموذج 25 يناير القادر على تأزيم الموقف وفرض حزمة من التنازلات على الكتلة الحاكمة. مشكلة هذا التصور كانت فى مثاليته المفرطة والتى أسقطت من حساباتها أى تحليل لخريطة توازنات القوى التى أعقبت 11 فبراير. ما كان لـ”هجوم” 25 يناير أن ينجح فى تحقيق أول أهدافه وهو الإطاحة بمبارك وحاشيته دونما هذا الشرخ السابق شرحه فى العلاقة ما بين الكتلة الحاكمة والطبقة السياسية والذى دفعها دفعاً للتحالف مع الإخوان ودفع الجيش للتخلى السريع عن مبارك. بدون هذا الشرخ ما كان للحركة الجماهيرية المبعثرة ضعيفة التنظيم قصيرة النفس أن تنجز أى من أهدافها، والقول بعكس ذلك هو محض تفكير بالتمنى! محصلة هذا التفكير كانت سلسلة من الاعتصامات الدائمة والتظاهرات فى الميادين الكبرى للمحافظات والتى استنزفت طاقة ووقت وتركيز هؤلاء النشطاء وانتهت فى الكثير من الأحيان إلى مواجهات قاتلة مع قوات الجيش أو الشرطة التى ازدادت شراسة على شراستها المعهودة أخذاً فى الاعتبار إهانتها التاريخية فى الثامن والعشرين من يناير 2011. لم تزد هذه المواجهات التجمعات الثورية إلا عزلة على عزلتها علاوة على إعادة إنتاج نفس الثنائية المقيتة التى حكمت خيارات هذه القوى منذ 11 فبراير- ثنائية التحالف مع الجيش أم التحالف مع الإخوان. أما السعى لسد الفراغ التنظيمى الهائل فكان حديثاً مؤجلاً لحين الانتهاء من “تحقيق أهداف الثورة” التى كانت تزداد غموضاً يوماً بعد الآخر.

من جهة أخرى أما القطاع الأغلب من التجمعات الشابة الثورية الذى قرر الانتظام فى أحزاب ليبرالية أو تنتمى ليسار الوسط والبدء فى الدخول إلى المعترك الانتخابى بدءاً من استفتاء 19 مارس وما تلاه من استحقاقات انتخابية، فقد كانت تجربته فى الأغلب الأعم تتحرك على إيقاع رد الفعل للصعود الإسلامى، بمعنى أن ما كان يدفعه هو سعى متوتر للحفاظ على ما يفترض أنه طابعاً مدنياً لمؤسسات الدولة المصرية – وهو افتراض حاولنا أن ندلل على مفارقته للواقع. وعلى الرغم من عدم إنكارنا لنوايا أقسام مؤثرة من التيار الإسلامى فى الانقلاب الكامل على هذا الطابع، إلا أن ما يعنينا هنا أن القسم الأكبر والأكثر تأثيراً من التيار الإسلامى ممثلاً بجماعة الإخوان المسلمين كان يسعى لتعميق الطابع المحافظ والرجعى لمؤسسات الدولة والتى كانت عصية على الإصلاح وتحظى برعاية النخب الحاكمة التى تعاقبت على سدة الحكم فى مصر منذ بداية انخراطها فى السوق الرأسمالى العالمى. وحاولنا أن نوضح كيف أن هذه المؤسسات قد لعبت أدوراً وظيفية فى تعميق الطابع الأبوى للعلاقات الإجتماعية فى مصر على حساب الغالبية الكاسحة من النساء المصريات وكافة الأقليات الدينية والمذهبية. وبالتالى فما تحتاجه هذه المؤسسات هو عملية “مدينة” فى الحقيقة أكثر ما تحتاج حماية من أى نوع. وعلى الرغم من إدراكنا كذلك أن غالبية هذه الأصوات المدافعة عن مدنية الدولة المفترضة لا تعترض على ضرورة إصلاح هذه المؤسسات ومقرطتها، إلا أن عملية الإصلاح والمقرطة تلك تقتضى ضغطاً متواصلاً على هذه المؤسسات من خارجها وليس منحها شيكاً على بياض بدعوى الانتظار حتى القضاء على الخطر الإسلامى. بعبارة أخرى، الدفاع عن المدنية يتوقف على تعميق الثورة وهى المسار “المدنى” الوحيد فى الحقيقة الذى كان مطروحاً على هذا المجتمع. للأسف، تصورت هذه القوى إمكانية تخليق تصور مدنى أو ليبرالى أو ديمقراطى فى معامل الأحزاب عبر فرملة إيقاع الثورة خوفاً من الانتهاء بالدولة فى أحضان الإسلاميين، فكان أن تطوع الجيش نفسه بدفع الدولة دفعاً لأحضان الإسلاميين. أما من حيث رؤية هذه التجمعات للنضالات الاجتماعية، فكان التذبذب هو سيد الموقف ما بين التنكر الكامل لهذه النضالات وإطلاق الدعاوى الصريحة لوقف الإضرابات والاعتصامات بدافع وطنى وما بين محاولة مد الجسور معها، وإن كان الميل الأول كان هو الغالب فى أكثرية الحالات.

وبين الطريقين ظلت الاحتجاجات الاجتماعية المتسعة على حالها من الضعف التنظيمى والغياب شبه التام للتسييس، بل وشهدت بناها التنظيمية الناشئة تعثرات محبطة كحالة النقابات المستقلة مثلاً.

وما بين الميلين كذلك كانت أقلية تحاول التجريب عبر العمل فى حقل غير مطروق تقريباً وهو بناء منظمات سياسية مكافحة ترى هدفها الرئيس هو مساعدة قوى الثورة المبعثرة فى بناء تنظيماتها قدر الإمكان، والدفاع عن هذه العملية فى مواقع اتخاذ القرار والجدل العام، وبلورة البدائل التى تساعد على تحويل هذه النضالات المتصاعدة من مجرد نضالات موقعية أو محلية إلى مشاريع سياسية تفصل مصالح اجتماعية وحساسيات ثقافية متنوعة ومتباينة تستهدف فى النهاية استكمال مسار الثورة الوطنى الديمقراطى. خاضت هذه القوى المعارك الانتخابية واعتصامات الميادين فى الوقت نفسه… ناضلت ضد “حكم العسكر” ودافعت عن مدنية الدولة فى ذات الوقت. إلا أن تجربتها أتت دائماً من الهامش ولم تستطع أن تنتزع لنفسها موطئ قدم فى متن المشهد حتى الآن.

على الرغم من ضعف وتخبط القوى الديمقراطية ذاك، إلا أن شراكة الإخوان للكتلة الحاكمة المتخندقة فى مواقعها لم تكن مهمة سلسة أو تسير فى اتجاه واحد. هذه المهمة كان تستدعى تعديلاً فى مكونات الكتلة الحاكمة وكذلك تعديل فى طبيعة العلاقة التاريخية السابق شرحها بينها وبين الحزب الحاكم. على صعيد التعديل فى التكوين سعى الإخوان لتشكيل طغمتهم الاقتصادية الخاصة بهم عبر التزاوج بين رأسماليى الجماعة ورأسمالية مبارك الغابرة كما تدل على ذلك مشاريع التصالح مع رجال أعمال النظام السابق، وهى ممارسة كانت تقتضى ابتزازاً شديد الشبه بالابتزاز المافياوى الذى كان يمارسه نظام مبارك فى علاقته بطغمته الاقتصادية عبر توظيف مؤسسات عامة يُفترض بها النزاهة والحياد كالنائب العام أو الجهات الرقابية المختلفة. لم يُمارس هذا الابتزاز فقط ضد نخبة رجال الأعمال المستغلة ولكن كذلك ضد فئات كاملة كالقضاة أو الإعلاميين. وعلى الرغم من إقرارنا أن أحداً من هذه الجماعات لم يكن فى يوم من الأيام فوق مستوى الشبهات بعد عقود من الإفساد المتعمد للنخب المصرية، إلا أن الابتزاز الإخوانى هنا لم يهدف إلا لتعميق واقع الإفساد ذاك والمصادرة على أى إمكانية لإصلاح أجهزة الدولة المصرية. وعلى صعيد تعديل ممارسات الحكم، سعى الإخوان لتحويل حزبهم إلى حزب حاكم فعلاً وليس مجرد ديكور ملحق بأجهزة المتن السياسى، بما كان يقتضيه ذلك من تطعيم خطاب الدولة المصرية الأيديولوجى – القائم تاريخياً على أشكال مختلفة من التمييز- بمفردات الخطاب الإسلامى الأكثر محافظةً وهو ما كشفت عنه معركة الدستور فى 2012 التى ابتدعت أنماطاً جديدة للتضييق على الحريات العامة أو عن طريق فرض هيمنة الحزب على مفاصل الدولة ومواقعها الحساسة. بعبارة أخرى، لم يكن جائزاً للإخوان أن يقوموا بالمهام الموكولة إليهم داخل معسكر الثورة المضادة إلا عبر قدر من الهيمنة السياسية والأيديولوجية على هذا المعسكر نفسه: أى تتأخون الدولة كشرط لتدولن الإخوان!

على هذا النحو عادت بذور التوتر، التى أشعلت الخلاف الطارئ والمؤقت بين المجلس العسكرى والإخوان عشية الانتخابات الرئاسية -أى الطبيعة الطائفية المغلقة للتنظيم ونمط تحالفاته المقلق مع القوى الأكثر تشدداً داخل الطيف الإسلامى- إلى الواجهة. أى أن شراكة الإخوان فى معسكر الثورة المضادة قد أصبحت بحد ذاتها خطراً على الاستقرار المنشود كما رأينا فى إضرابات الشرطة والقضاة والتأزيم الطائفى وهو ما كان يعنى فشل مهمة احتواء مفاعيل الثورة. بالعكس، كان حكم الإخوان يعنى مزيداً من عدم الاستقرار المفتوح على كافة الاحتمالات بما فى ذلك تعميق مسار الثورة ذاته. من هنا بدأت لحظة 30 يونيو فى التشكل.

تشكلت لحظة 30 يونيو من جماع روافد ثلاثة: كتلة حاكمة قديمة ضاقت ذرعاً بالإخوان ورأت فى سعيهم للاستحواذ على مقاليد الحكم وبناء شموليتهم الدينية تهديداً مباشراً لمصالحها ومكانتها وفشلاً ذريعاً لمشروع الشراكة الذى رعته قوى الثورة المضادة إقليمياً ودولياً منذ 11 فبراير، قوى سياسية قديمة وجديدة لا يحركها إلا التخوف من شمولية الإخوان دون أن تكن كثيراً من الود بالضرورة للكتلة الحاكمة القديمة، و أقلية تجمعات ثورية ديمقراطية متنوعة ظلت على عهدها فى النضال ضد مشاريع الثورة المضادة المختلفة. اعتمد ذلك كله على سخط شعبى حقيقى امتد لفئات واسعة من المواطنين ضد محاولات الإخوان لبناء شموليتهم الخاصة، والأغرب فى التاريخ، لجهة كونها شمولية لا تسعى لنيل رضاء الناس بقدر ما تسعى لتمكين طائفة من هؤلاء الناس على عموم الشعب بدعوى إعادة تأهيله. إعادة التأهيل هنا تختلف عن نظيرتها فى المشروع الناصرى من حيث كونها لم تستند على أى انجاز من أى نوع، بل أنها قد استندت فى الحقيقة على إرهاب الأغلبية من الشعب المصرى. باختصار حوّل الإخوان جماعتهم وحزبهم إلى ما يشبه قوة الاحتلال فى عيون أغلبية المصريين. نحن أمام لحظة نادرة اختلطت فيها الشمولية بالأوليجاركية بالغباء الشديد لتولد واحدة من أعجب الانتفاضات الشعبية فى تاريخ هذا البلد إذ تماثلت كل ملامحها مع ملامح الانتفاضات المناهضة للاحتلال الأجنبى، من توظيف للرموز الوطنية الجامعة واعتماد على مؤسسات الدولة فى التعبئة… إلخ.

كانت 30 يونيو فرصة تاريخية عظيمة أخرى، كشفت عن تجدد أزمة الكتلة الحاكمة المتمثلة فى فقدانها ذراع سياسى فعال، وهى الأزمة التى زاد عليها امتداد الشرخ إلى جسم هذه الكتلة نفسه على وقع مغامرة الجيش الفاشلة فى تسليم الدولة للإخوان. كذلك كانت 30 يونيو فرصة تاريخية لتصعيد الهجوم على المشروع الإسلامى الذى تمتع بهيمنة أيديولوجية ممتدة لأكثر من ثلاثة عقود وبدا فى هذه اللحظة المفصلية متقادماً مهترئاً عاجزاً عن إلهام أحد. وهذا التداعى الإسلامى بحد ذاته يعد مكسباً عظيماً للمشروع الوطنى الديمقراطى كان يمكن البناء عليه.

إلا أن أوضاع ما بعد 30 يونيو كانت أسيرة ما قبل هذا التاريخ تماماً كما كانت أوضاع ما بعد 11 فبراير أسيرة التناقضات السابقة عليه. فكما استطاعت القوى الإسلامية تنحية قوى الثورة الديمقراطية الناشئة بعد تنحى مبارك وتقديم نفسها للكتلة الحاكمة كشريك يعتمد عليه، استطاعت فلول الطبقة السياسية القديمة والروافد الجديدة المبتسرة التى تطلعت لخدمة مشروع جمال مبارك، أن تعيد اختراع صورتها وتقديم نفسها للكتلة الحاكمة وراعيها الرسمى فى المؤسسة العسكرية. ساعد على ذلك الانهيار الحاد فى شعبية القوى الإسلامية وتجربتهم الكارثية فى الحكم. استطاعت هذه القوى تنحية المكون الليبرالى فى الرئاسة ثم الحكومة ثم اندفعت باتجاه الانتقام الصريح والحرفى من قوى الثورة الأكثر جذرية.

بعبارة أخرى، وعلى الرغم من التشابه بين ما حدث فى 11 فبراير 2011 وما جرى فى 3 يوليو 2013، إلا أن فارقاً جوهرياً لا يجب طمسه وهو أن الشراكة الجديدة تجرى على إيقاع أزمة اقتصادية أعمق وتفكك أكبر فى الكتلة الحاكمة يجعل المسار هنا استبعاديا – أى تنقية الكتلة الحاكمة من أى شوائب لحقت بها فى فترة حكم المجلس العسكرى- وليس إدماجيا- أى قائم على دمج الإسلاميين بهدف احتواء الثورة، إلى جانب تباين واضح فى مواقف الرعاة الإقليميين والدوليين لمشروع الثورة المضادة ناتج عن عمق الأزمة كما أسلفنا. فى هذا السياق تبدو كل الخيارات صفرية وحدية على العكس من سياق 2011، ويبدو القمع أو الإرهاب المعمم هو المنهج المعتمد لانجاز مهمة استعادة وحدة الكتلة الحاكمة وإنجاز، أو بالأحرى استئناف شراكتها، مع طبقة سياسية مهلهة تتكون من “فلول” ووافدين جدد جرى تجميعهم على عجل لإنقاذ مشروع الثورة المضادة.

هنا يبرز السيسى كواسطة العقد القادر على إنجاز هذه الأهداف مجتمعة فى سياق عاصف كالذى نمر به الآن. هو الوجه الآخر لمشروع الثورة المضادة الذى صُنع على عجل. هو معكوس مشروع الإخوان إن جاز التعبير، يسعى لانجاز نفس المهمة عن طريق تنقية الكتلة الحاكمة وبتوظيف أيديولوجية تلفيقية بائسة جوهرها هو إعادة انعاش نظام يوليو فى طوره الساداتى- المباركى التابع المحافظ والسلطوى.

سيناريوهات المستقبل:

إلى أى مدى يمكن للكتلة الحاكمة تحت قيادة السيسى تحقيق أهدافها كاملة فى هزيمة مشروع الثورة الوطنى الديمقراطى بشكل كامل؟ أو بالأحرى، ماذا تعنى الهزيمة فى هذه الحالة؟ ليس من قبيل الحكمة الإجابة على هذا السؤال بالنفى أو بالإيجاب فى ظل سياق متغير بهذه الوتيرة المتسارعة. إلا أننا يمكن أن نحدد عدد من السيناريوهات فى ضوء تكتيكات الفاعلين المختلفين كما تتجلى لنا حتى الآن. بشكل عام يمكن تحديد أربعة سيناريوهات نرتبها من الأقل احتمالية إلى الأكثر احتمالية.

السيناريو الأول هو أن ينجز السيسى المهمة بنجاح كامل، أى يرعى عملية توحيد الكتلة الحاكمة ويستأنف المشروع النيو ليبرالى بشكل فعال بما ينعكس فى معدلات نمو معقولة واستقرار معقول بدوره يقود لانفتاح سياسى تدريجى. هذا ما يأمل به وكلاء السيسى الأشد حصافة فى المجال العام. مشكلة هذا السيناريو إنه يعتمد بشكل شبه كامل على افتراض معجزة ما تجترحها الفوائض النفطية وكذلك افتراض هزيمة ساحقة للتيار الإسلامى بالشكل الذى يستحيل تأثيره فى الحياة العامة إلى الصفر. غنى عن الذكر، أن كلا الافتراضين يفتقران للمعقولية نتيجة ما كررناه فى أكثر من موضع عن الأزمة الاقتصادية العالمية وأثرها الواضح على اقتصاديات المنطقة وكذلك فى ضوء مقاومة الإسلاميين الواضحة للعيان وقدرتهم على البقاء.

السيناريو الثانى يتمثل فى إحداث تحولات جوهرية فى مشروع السيسى نفسه باتجاه أكثر ناصرية إن جاز التعبير، أى فرض وحدة شبه قسرية على الكتلة الحاكمة عبر استغلال ماهر لاستقلاله النسبى، هو والمؤسسة العسكرية فى الواقع، عن مجمل الفرقاء المتنازعين، وكذلك عبر استغلال الجفاء المتصاعد فى الخليج تجاه الولايات المتحدة ليدفع باتجاه سياسة خارجية أكثر ندية. زيارة السيسى لموسكو وتصعيد اللهجة ضد واشنطن وسعيه فى بعض الأحيان للنأى بنفسه عن فلول الطبقة السياسية القديمة تقوم كلها كمؤشرات على احتمال انتهاج هذا التحول. إلا أن السيناريو الناصرى لا يمكن أن يستقيم بدون إصلاحات اجتماعية معقولة. هنا نعود للمعضلة الأساسية وهى محدودية الريع وعدم استعداد الفئات المتحالفة مع السيسى حالياً لأى تنازل جدى. الصدام هنا مع الكتلة الحاكمة سيكون صداماً واسعاً بالضرورة ولا يمكن أن نعرف على وجه الدقة حدود المناورة التى يتيحها الاستقلال النسبى للمؤسسة العسكرية.

السيناريو الثالث هو محاولة تعويض الفشل على المستوى الاقتصادى بتحقيق اختراق على صعيد الاستقرار، وذلك عن طريق مصالحة شاملة مع التيار الإسلامى ودمجه فى الحياة السياسية، ليس من موقع الشراكة هذه المرة ولكن من موقع التعايش فى صيغة أقرب للصيغة التى حكمت علاقة مبارك بالإخوان، ولكن مع شرعنة وضع الإخوان القانونى نفسه. من شأن هذا السيناريو أن يخفف من درجة الاحتقان والعنف فى الشارع، ولكنه لن يكون إلا على حساب أى قدر من الانفتاح فى المجال السياسى ككل- ستكون هى المصالحة الأولى والأخيرة فى الواقع… تصالح مع الإسلامين يفضى إلى تغليظ القبضة الأمينة فى مواجهة الباقين. يواجه هذا السيناريو صعوبات جمة بدوره أهمها عدم استعداد الإسلاميين أنفسهم لهذه المصالحة. المشهد الإسلامى يعانى من فوضى شاملة يصعب معها فرض مثل هذه الحلول. علاوة على أن أى مصالحة تقتضى تنازلات مؤلمة من قبل الكتل الحاكمة قد يكون على رأسها اختفاء السيسى نفسه من المشهد.

السيناريو الرابع والأرجح هو استمرار الوضع على ماهو عليه… أى استمرار مُركّب الفوضى والقمع والانهيار الاقتصادى لمدى زمنى قد يطول ودخول مصر إلى حيز المجتمعات التى تستعصى على الحكم. وخطورة هذا السيناريو أنه فى ظل الغياب شبه التام للبدائل الديمقراطية فنهاية هذا الصراع لن تكون إلا بانتصار أحد طرفيه نصراً ناجزاً: إما انتصار الإسلاميين، بالتعاون مع منافسين فى المؤسسة العسكرية كما حدث فى السودان 1989 أو انتصار القيادة الحالية للكتلة الحاكمة عبر طريق دموى قاتم كما حدث فى عشرية الرصاص الجزائرية.

ما العمل؟ نحو استراتيجية لقوى الثورة الوطنية الديمقراطية:

هذا الوضع المقلق على الرغم من مآلاته الغائمة على المدى القصير إلا أنه مفعم بالإمكانيات على المدىين المتوسط والبعيد. من زاوية أولى، فأزمة الحكم التى حاولت الورقة تشخيصها، والمتمثلة فى عجز الكتلة الحاكمة المقيم عن إيجاد تمثيل سياسى لمشروعها، غير مرشخة للحل قريباً فى ظل تعثر التنمية الدائم وبروز حدود أفق التنمية المتاح من قلب السوق الرأسمالى العالمى. هذا بخلاف تناقص “المنفعة الحدية للقمع” مع التوسع فى استخدامه وتحوله فى الكثير من الأحيان لسلاح غير ذى موضوع خاصة فى مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية الواسعة كالإضرابات والاعتصامات العمالية وغيرها كما تظهر تجربة الشهور القليلة الماضية. وأخيراً فالمعركة تخاض هذه المرة فى ظل ظرف من الوضوح حول حدود معسكر الثورة الوطنية الديمقراطية والذى خرج منه التيار الإسلامى إلى غير رجعة بعد انكشاف تداعيه التاريخى وانحطاطه الاستثنائى. قدرة التيار الإسلامى نفسها على تعطيل أى نضال ديمقراطى فى تراجع واضح، تماماً كما قدرة القمع السافر على احتواء النضال السياسى والإجتماعى المتصاعد.

من قلب هذا المشهد تبرز مرة أخرى إمكانية استئناف النضال من أجل بناء قطب جديد فى السياسة المصرية قادر على بلورة ملامح مشروع وطنى ديمقراطى ذو أفق اجتماعى يحل محل مشاريع التبعية والأبوية والمحافظة الدينية على اختلافها ويفتح الأفق أمام النضال على مستوى أعمق لتغير علاقات الانتاج الرأسمالية نفسها كما تشكلت فى السياق المصرى، والتى قامت مقام السبب والنتيجة لهذا المرُكب الخانق. هذا الفهم لطبيعة الثورة المصرية يستدعى تلقائياً مهمة بناء حزب يسارى واسع ذو ضفاف معرفة تعريفاً مرناً بوصفها أحد ضرورات مسار الثورة المصرية فى المقام الأول قبل أن تكون لتلبية حاجة أيديولوجية- أحد ضروراتها بوصفه، أى هذا الحزب، الجسم القادر على فتح أفق النضال الديمقراطى والثقافى وتجذيرهما وتعميق طابعهما الإجتماعى. هذه المهمة موكولة حصرياً للأحزاب ولا يستطيع أى شكل تنظيمى آخر أن يحل محلها فى هذا المقام.

فى هذا الصدد يبرز السؤال عن طبيعة مساهمة حزب يسارى جديد فى النضال من أجل خلق هذا القطب الوطنى الديمقراطى؟ تتمثل طبيعة هذه المهمة فى الحركة على ثلاثة مستويات مترابطة تستحق كل منها معالجة مستقلة.

على صعيد العمل الجماهيرى، فالمهمة الملحة والمركزية هى مساهمة مناضلى الحزب فى نقل الأوضاع التنظيمية لعموم الشعب المصرى خطوة أو خطوتين للأمام على طريق المدنية والديمقراطية والتعدد. المساهمة بكافة الأشكال فى بناء منظمات جماهيرية ديمقراطية مكافحة هى مهمة مناضلى الحزب الأولى فى أى موقع لنشاطهم. بالديمقراطية هنا نعنى عدم التفرقة فى عضويتها بين عموم المصريين على أى أساس واعتمادها آليات المشاركة الشعبية المباشرة فى عملية اتخاذ القرار. وب “الكفاحية” نعنى قدرتها على تعميق المشاركة الشعبية تلك فى عملية النضال من أجل تحقيق أى من المطالب المرفوعة كمنهج عمل دائم. تتراوح أشكال المساهمة تلك من الدعم القانونى إلى تقديم الخبرة المؤسسية إلى تقديم الرؤية المتماسكة لأهداف هذه المنظمات وبلورة برامجها التفصيلية فى ضوء الرؤية العامة لمشروع الثورة المصريةـ، وهو ما يقتضى حكماً تنسيقاً عميقاً مع المستوى المركزى للحزب الذى يقوم مقام البوتقة التى تنصهر فيها خبرات العمل الجماهيرى المختلفة وتختمر فيها الرؤى السياسية والفكرية. ويقتضى ذلك عملاً دؤوباً لبناء ثقة ومد جذور لهذه المجموعات الحزبية فى بيئات محلية شديدة التنوع فى بلد معقد كمصر.

بعبارة أخرى، ترتسم ملامح هذه الاستراتيجية فى العمل الجماهيرى فى مواجهة كلا المنزلقين السابق التعرض لهما- الميل الدعائى والميل البيروقراطى الحزبى الضيق. فمن ناحية أولى، استنزف الميل الدعائى القائم على افتراض إمكانية استنساخ سيناريو 25 يناير بشكل دائم عبر سلسلة من الاحتجاجات العامة التى تقود بدورها لتأزيم الموقف، استنزف هذا الميل طاقات قطاع معتبر من النشطاء اليساريين دون مردود واضح على صعيد تنظيم الحركة الجماهيرية. الاستمرار فى هذه المحاولات إلى ما لا نهاية لا يعنى إلا مزيداً من العزلة التى تتطور ببطء إلى نفور فى الكثير من الأحيان. ومن ناحية ثانية، تصور فريق آخر إمكانية اختصار الطريق إلى مقاعد البرلمان أو الحكومة دونما تعبئة شعبية من أى نوع، بل بالأحرى من خلال محاصرة هذه التعبئة وتصور إمكانية التحكم بها فى ضوء تصورات هندسية عن “طبيعة المرحلة”، الأمر الذى انتهى بهذا الفريق أيضاً إلى مزيد من العزلة والعجز على التأثير فى توجهات أجهزة الدولة، وتجربة العناصر الليبرالية واليسارية – القومية فى حكومات ما بعد 3 يوليو خير شاهد على ذلك.

هى استراتيجية للعمل الجماهيرى إذن قائمة على ساقين- واحدة فى المجال الاحتجاجى الصرف والأخرى فى المساحات غير المطروقة فى الأحياء والنقابات والجامعات والمفترض أن تشكل ظهيراً أو عمقاً شعبياً لهذا الطيف الاحتجاجى. هدفنا أن يعدو مناضلينا عناصر للربط بين هذه الحساسيات المختلفة ورؤيتها للعالم، وضبطها وضمان تأثيرها المتبادل والمبدع.

على المستوى السياسى، يمكن بلورة وجهة هذا المشروع باختصار شديد فى إعادة هيكلة ممارسات الحكم بالقطع مع الطابع الأوليجاركى الذى وسمها فى العقود الأخيرة وتعميق طابعها الديمقراطى التشاركى الهادف إلى تجاوز الأطر الديمقراطية الإجرائية باتجاه تعميق المشاركة الشعبية فى عملية صناعة السياسات العامة وتحديد أولويات واستراتيجيات الانفاق العام وموارده.

وهو ما يقتضى حكماً تحولاً فى المنطق المتحكم فى عملية التنمية باتجاه اخضاع أولوياتها لحاجات هذه الطبقات المنظمة وأولوياتها، هذه الاحتياجات بحد ذاتها من المفترض أن تشكل قاطرات النمو وليس احتياجات السوق الرأسمالى العالمى. من شأن ضمان أعلى قدر ممكن من الديمقراطية التشاركية والمشاركة الشعبية تجاوز أوجه الخلل القاتل فى التجربة الناصرية والتى اختزلت فكرة التنمية المعتمدة على الذات فى تلبية احتياجات الطبقة الوسطى الاستهلاكية على حساب نمو متوازن بين الريف والحضر وبين القطاعات المختلفة وفئات وشرائح جمهور العاملين ككل.

من البديهى كذلك أن يقود هذا السعى لسياسات توزيعية مختلفة، ليس فقط بهدف إعادة توزيع عادلة لثمار النمو المحتملة، ولكن بهدف تمويل نمط النمو الجديد ذاك. ومن البديهى أيضاً أن نمطاً للتنمية على هذه الشاكلة سيستدعى جهاز الدولة مرة أخرى لدائرة الاستثمار المباشر سواء عبر الآليات التقليدية، كالملكية العامة لوسائل انتاج بعينها، أو عبر آليات مستحدثة كالصناديق السيادية وغيرها، لسد الفجوات المتوقعة فى إسهام القطاع الخاص أو القطاع التعاونى فى هذه العملية وتجاوز الطابع الريعى للأنشطة الاقتصادية فى مصر.

كذلك فالأداة القادرة على نظم هذه العناصر المختلفة فى منهج واحد هى أداة التخطيط، والتى تم اسقاطها عمداً من أدبيات الاقتصاد السياسى على مدى عقود منذ منتصف السبعينيات تقريباً. وأخيراً، فمن البديهى أن نمطاً للحكم والتنمية يتشكل فى مواجهة تاريخ طويل من النمو اللامتكافئ والتهميش الاستعمارى أو الاستعمارى الجديد لا يسعه إلا أن يكون أممياً، بمعنى أن نضاله لتعديل شروط التبادل الدولى وسياسات مؤسسات الإقراض الدولية وغيرها هو متطلب أصيل من متطلبات انجاز مشروعه التنموى نفسه.

مرة أخرى، العناوين المقتضبة التى تم ذكرناها هنا كملامح عريضة لبديل وطنى ديمقراطى للتنمية هى فى الواقع مشتقة من أولوية وحتمية تحويل ممارسات الحكم باتجاه الديمقراطية التشاركية. بدون هذا الملمح الأخير ستنهى هذه السياسات إلى إنتاج سلطوية جديدة تجتر فشل التجارب السابقة التى أشرنا إليها.

أما على المستوى الجبهوى، فالحزب يناضل من أجل جبهة واسعة تشمل كل المؤمنين بضرورة إنجاز تحول ديمقراطى كامل على النحو الذى فصلناه فى أكثر من موضع فى هذه الورقة. على المستوى السياسى، تمتد قائمة الحلفاء من وسط المجال السياسى المصرى وحتى أقصى يساره. وعلى المستوى التنظيمى، فهذه الجبهة تتجسد من قوام التحالفات الموقعية بين فيض من المنظمات الديمقراطية الشعبية السابق ذكرها والتى يحددها مناضلو حزبنا وفقاً لمعايير متغيرة من موقع لآخر.

بخلاف أفقها العام المطروح عاليه، فهذه الجبهة تتضاد مع طيف من المشاريع السلطوية أو الشمولية الصريحة والتى تشترك فى رفضها للطابع الديمقراطى الكفاحى والتقدمى لهذه الجبهة كعموم التيارات الإسلامية والتيارات الليبرالية الجديدة. هذا الحكم لا ينسب جوهراً ثابتاً لهذه الأحزاب والتكوينات يجعلها أعداء سرمديين خارج التاريخ. ما نود التشديد عليه أننا نتحدث عن تحالفات وجبهات ولا نتحدث عن القبول بأحقية أى تيار فى الفعل السياسى من حيث المبدأ طالما التزم السلمية والشفافية فى علاقته بالرأى العام. ومن جهة أخرى، فبروز أى حساسيات ديمقراطية أو تقدمية فى صفوف كلا التيارين المتصارعين على رقابنا اليوم، مرهون بنمو القطب الوطنى الديمقراطى وضغطه على أعصاب هذه الكيانات فى مجال عام مفتوح بما يعجل من إبراز هذه الحساسيات الديمقراطية. بدون هذه العلاقة الصراعية، فالرهان على نمو ميل ديمقراطى من داخل هذه التيارات هو محض مثالية لا تستند لأساس فى الواقع والاندفاع لجبهات مع هذه التيارات على حالها الراهن هو صك اعتراف تناله هذه القوى دونما استحقاق، تستفيد منه دائماً فى تحسين صورتها داخلياً ودولياً ولا تستفيد منه القوى الديمقراطية فى شئ، إذ أن المكاسب فى أى تفاوض تتحدد بالاعتماد على الوزن النسبى على الأرض وهو وزن متواضع حتى الآن لا يسمح بعلاقة ندية مع هذه الكيانات.