يدين حزب العيش والحرية (تحت التأسيس) التدخلات التركية الأخيرة في الصراع الدائر في ليبيا، ويشدد على أن المخرج الوحيد من الصراع الدموي الدائر هناك هو في استعادة الشعب الليبي لمصيره بين يديه بعيدا عن تدخلات القوى الإمبريالية الجديدة في الإقليم سواء في الخليج أو تركيا. وترجمة هذا الطموح – الذي بشرت به الثورات العربية – هي في حل سياسي يبدأ بنزع سلاح كل الأطراف وإطلاق عملية سياسية تقر دستورا جديدا للبلد وانتخابات ديمقراطية. هذا الحل الذي يوصف بالمثالية هو في الحقيقة الحل الواقعي الوحيد بينما أن أي رهان على حسم عسكري هو محض أوهام تدفع ثمنها شعوب المنطقة من دمائها.
كان رئيس الجمهورية التركي رجب أردوغان قد أعلن في السادس من يناير عن البدء في إرسال وحدات عسكرية تركية إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق في طرابلس، وهذا بعد أيام قليلة من موافقة البرلمان التركي على إرسال قوات تركية إلى ليبيا ضمن سلسلة من التحركات التركية المتسارعة بدأت بالإعلان عن توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين الحكومة التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية في ٢٧ نوفمبر والتي رسمت ممر مائي مفتعل بين تركيا وليبيا واعتباره بموجب الاتفاقية حدودا بحرية بين البلدين – تحركات مشبوهة يقودها أردوغان بلا أي سند قانوني أو شرعي ولا يمكن فهمها سوي في سياق الصراع الدائر حول الغاز في شرق المتوسط. وحول هذا الصراع ينبغي أن نوضح ما يلي:
١-إن تركيا بهذا التحرك تحاول قطع الطريق على الخط البحري الذي أعلن عنه تحالف إسرائيل واليونان وقبرص بدعم أمريكي لنقل الغاز إلى أوروبا والذي بمقتضاه سيتم إخراج تركيا من المعادلة كمركز مهم لتصدير الغاز. فتركيا كانت تسعى أن تتحول للمحطة الأساسية لنقل غاز شرق البحر المتوسط لأوروبا، بالإضافة لكونها محطة أساسية لتصدير الغاز الروسي والأزربيجاني عبر سلسلة من الخطوط التي تمر بالأراضي التركية.
٢-تحرك تركيا يأتي كذلك دعما لحلفائها “الإسلاميين” في هذه المعركة، فمن الاتفاق مع حكومة السراج على افتعال هذه الحدود البحرية مقابل الدعم العسكري، إلى محاولة الضغط على تونس باستخدام حزب النهضة لفتح حدودها للجيش التركي للتحرك لليبيا، إلى تعبئة كل الرموز الإخوانية في الخارج لدعم هذا التحرك، استغل أردوغان تيار الإسلام السياسي، الإخواني تحديدا، في دعم أطماعه الاستعمارية وذلك في سياق سعيه لتحويل هذا التيار في البلاد العربية إلى وكلاء حصريين لتركيا.
إن حزب العيش والحرية (تحت التأسيس) إذ يدين هذه التحركات التركية ينطلق من المحددات التالية:
١-لا للحرب: نرفض أن تتورط مصر في أي حروب خارج الحدود يراق فيها دماء جنودنا وتستهلك مواردنا. وهذا موقف مبدئى نتبناه في ظل المغامرات العسكرية والألعاب المشبوهة لأطراف دولية وإقليمية يستدعي تدافعها شبح الحرب. نتبناه ضمن تحرك شعبي أممي، ونقدر كل صوت عاقل حتى لو اختلفنا معه يرفض مزيد من الحروب في منطقتنا. كما نرفض الدعاية المحلية للحرب وتعبئة الذعر وتخويف المجتمع، وخلق مشهد سياسي مخيف ورديء ولا يتسع لآمال الشعب المصري في حياة حرة وكريمة.
٢- إن الصراع الدائر حول الغاز هو صراع بالأساس لا يخصنا، فمصر تعتمد على تسييل الغاز لتصديره بالسفن وما زال الغاز المنتج من الحقول المصرية لا يكفي الاستهلاك المحلي، فقضية تصدير الغاز لأوروبا هي في جوهرها صراع بين إسرائيل التي تسعى للاستفادة من الغاز الذي سرقته من المياه الإقليمية لدول الإقليم وتركيا صاحبة المطامع والتطلعات في سياق صراع أكبر بين الأمريكان والروس ولا، يجب أن تتورط مصر في هذا الصراع الامبريالي البغيض.
٣- إن تورط تيار الإسلام السياسي في دعم ألعاب أردوغان الاستعمارية في الإقليم هو بمثابة عبء جديد يضاف على كاهل هذا التيار المأزوم يعمق من مأزقه ويقطع الطريق على أي انفراجة أو مبادرة لتخفيف الضغوط عن رموزه وشبابه، فتحركات قيادات تنظيم الإخوان في الخارج للدعم العلني لخطط أردوغان يحول تنظيم الإخوان إلى وكيل سياسي لتركيا ويدفع جمهوره لموقع معادي لمصالح الشعب المصري.
ما زلنا نؤمن أن المصالحة الوطنية الليبية هي السبيل الوحيد للاستقرار في هذا البلد، وهو خيار التزمت به السلطة الحاكمة في مصر، نظريا على الأقل، حيث دعا البيان المشترك بين فرنسا ومصر والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا والمملكة المتحدة في يوليو الماضي – والذي أتى متسقا مع اتفاق الصخيرات ٢٠١٤- إلى تهدئة التوترات فورًا ووقف القتال واستئناف العملية السياسية على وجه السرعة تحت إشراف الأمم المتحدة. كذلك دعا نفس البيان إلى دعم جهود الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة الذي يعمل على إرساء الاستقرار في طرابلس، واستعادة الثقة من أجل إنهاء الأعمال العدائية، وتوسيع دائرة نشاطه لتشمل جميع المناطق الليبية، وإقامة حوار منفتح على الجميع، وتوفير الظروف المواتية لاستئناف العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة. ويجب إضفاء زخم جديد على وساطة الأمم المتحدة التي ترمي إلى تأليف حكومة انتقالية تمثل جميع الليبيين، وتمهيد الطريق لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية تتسم بالمصداقية، وإتاحة توزيع الموارد الليبية توزيعًا عادلا.
لقد عانى الشعب المصري من النشاط الواسع للميليشيات الجهادية على الأراضي الليبية والتي ذبحت عدد من المواطنين المصريين المسيحيين في جريمة لا تنسى، كما انطلقت عدد من العمليات الإرهابية إلى بلدنا من الأراضي الليبية التي أصبحت مرتع لنشاط هذه التنظيمات وتحولت إلى ملجأ للإرهابيين الهاربين. ويتضح الآن أن حكومة الوفاق ترعى هذه الميليشيات وتعتمد عليها وتتواطأ مع جرائمها.
نشدد هنا أن موقفنا ضد الحرب لا يعني الاستهانة بهذه المخاطر، بل إننا نؤمن بأن لا حل سياسي بدون تطهير ليبيا من الميليشيات والحد من فوضى السلاح. ويجب على حكومة الوفاق أن تتبرأ من إيواءها لهذه الميليشيات والبرهنة للعالم على أنها توقفت عن إيواء واستخدام التنظيمات الجهادية في صراعها السياسي بدلا من أن تعقد اتفاق مع تركيا لتدريب هذه الميليشيات ودعمها بالمال والسلاح.
وكذلك، وانطلاقا من موقفنا الداعي لمصالحة وطنية برعاية أممية، فإننا أيضا نرفض أي تخريب لمسار الحل السلمي المرغوب بتعنت اللواء خليفة حفتر ورفضه المشاركة في مبادرات التهدئة وتوسيع نشاطه العسكري الذي يخضع لمطامعه الشخصية والذي قد يجهض أي مساعي لحل الأزمة وبناء توافق وطني، كما يسهم نشاط حفتر في تحول ليبيا لساحة حروب بالوكالة وهو الأمر الذي سيعمق من معاناة الليبين ويهدد أمن المواطنين المصريين.
إن منطقتنا تواجه مخاطر كبرى تهدد شعوبنا ونضالها من أجل الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. وكلما يتصاعد هذا النضال من أجل شروط كريمة للحياة ضد النهب الامبريالي ونهب النخب الحاكمة وشيوخ الطوائف المحليين، تدفع تلك النخب باتجاه المزيد من الحروب الإقليمية والأهلية لقطع الطريق على النضال الشعبي الشجاع الذي يحفر – رغم التضحيات – مسارا نحو المستقبل.
إننا نرى أن النزعات الاستعمارية لتركيا وإيران والسعودية ووكلاؤهم لا تقتصر فقط على تهديد الاستقرار والأمن في الإقليم بالمعنى الضيق للكلمة، ولكنها تدخل في عداء مباشر مع مصالح الشعوب العربية على المدى المتوسط والبعيد.
وفي هذا السياق المضطرب، نؤمن أن هناك دور مصري ممكن لا يقتصر على التحركات العسكرية والمفاوضات السياسية، بل إن دور مصر لن يتبلور إلا بإعادة تأسيس ديمقراطي للدولة ينتزع بمقتضاه الشعب المصري حريته ويمكنه من المشاركة في الحكم وتقرير خيارات السياسة الخارجية… تحول يفتح الطريق لدولة ديمقراطية بها حياة حزبية ومؤسسات منتخبة ونقابات عمالية قوية وإدارة محلية وصحافة حرة ونشاط ثقافي مستقل… بها ألف رئة لمشاركة المواطنين في صياغة المصلحة الوطنية والتعبير عنها … ما زلنا نرى أن النضال من أجل مصر ديمقراطية هو أحد مسارات النضال من أجل إنقاذ الإقليم الذي تواجه شعوبه مصائر مرة وتجارب قاسية… ما زلنا نرى أن “مصر ديمقراطية” ستكون قادرة أن تتحول إلى بوصلة لشعوب الإقليم وقضاياها وفي قلبها قضية الشعب الفلسطيني.
إن هدف تجاوز واقع الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية وتحول المنطقة إلى ساحة للصراع الدولي لن يتحقق سوى ببناء نظام إقليمي جديد على أسس ديمقراطية يرعى مصالح الشعوب لا النخب الحاكمة.. نظام إقليمي غير ممكن سوى بتحولات عميقة في اتجاه الديمقراطية داخل الدول التي تتمتع باستقرار نسبي والتي يأتي في مقدمتها مصر بوزنها الإقليمي وتأثيرها الثقافي والسياسي.