الفوضى تضرب الإقليم والرجعيات تتكالب على الشعوب العربية من كل حدب وصوب- تحدي جديد للقوى الديمقراطية في مصر

التقرير السياسي الرابع الصادر من الجمعية العمومية لحزب العيش والحرية (تحت التأسيس)

انعقدت  الجمعية العمومية للحزب  في ظل ظروف استثنائية تتسم باتساع نطاق النزاعات المسلحة التي تضرب الإقليم لتشمل جبهة جديدة في اليمن تحت مسميات مختلفة وبمشاركة رسمية مصرية لا نعلم حتى الآن حجمها ودرجة جديتها. هذا بخلاف استمرار الصراع المدمر في كل من سوريا والعراق والذي لا يبدو أن مخرجًا قريبًا له يلوح في الأفق. وعبر هذه الصراعات جميعًا يبدو الإقليم منفجرًا حول كافة خطوط التماس الدينية والمذهبية والعرقية إلى الحد الذي لا تكاد تخلو فيه دولة عربية واحدة من صراع مذهبي أو تعاني من أصداءه خصوصًا مع تورط كافة القوى الإقليمية المؤثرة في تأجيج هذا الصراع. ويترافق ذلك مع استمرار الانسداد السياسي في مصر وغياب أي أفق للخروج من المرحلة الانتقالية الحالية التي طالت حتى قاربت السنتين وكذلك في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية على الرغم من التوقعات المرتفعة التي روجت لها الحكومة الحالية مع انعقاد المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ. ويبرز هنا السؤال حول التداعيات التي قد يولدها احتدام الصراع الإقليمي بهذا الشكل على مسار الأزمة السياسية والإقتصادية المصرية الراهنة واستراتيجيات القوى الديمقراطية المصرية وفي القلب منها اليسار لمواجهة هذه الآثار المحتملة.

    إن الإجابة على هذا السؤال مشتقة من توصيف طبيعة الصراعات الدائرة في الإقليم ذاتها. هل نحن نشهد صراعًا سنيًا شيعيًا يعد امتدادًا لصدعٍ بدأ قبل أربعة عشر قرنًا؟! أم أننا نشهد رد فعل عربي مشروع على محاولات إيرانية للهيمنة بدأت في لبنان والعراق وانتهت باليمن مرورًا بسوريا؟ أم أننا، على العكس من ذلك، نشهد هجومًا سعوديًا مدع،م أميريكيًا على حلف “الممانعة العربي”، المدعوم إيرانيًا، في سوريا ولبنان، يستهدف تصفيته باللعب على وتر الانقسام المذهبي السني الشيعي؟

    لا تبدو كل الإجابات السابقة إلا عناوين أيديولوجية لمشاريع للثورة المضادة، سواء اتخذت شكل الفاشيات الداعشية، على اختلاف مسمياتها، والتي تسعي لاعتقال الشعوب العربية  في صراع هوياتي مدمر، أو رفعتها الرجعيات الخليجية الساعية لتأبيد أنماط حكمها وتراكمها العفن بالتحالف مع ما تم تسويقه لنا باعتباره تيارًا إسلاميًا معتدلًا، كالإخوان في مصر وغيرهم من بقاع العالم العربي، أو تبنتها الشمولية الإيرانية القائمة بالفعل والتي تسعى بدورها لحل تناقضاتها الداخلية على حساب جماهير العالم العربي بالتحالف مع من تبقى من قوى طائفية واستبدادية انتحلت لنفسها صفة “الممانعة”. بعبارة أخرى، نحن بصدد تكالب للنخب الرأسمالية والسياسية الرجعية العربية من كل حدب وصوب على جماهير العالم العربي كنتيجة طبيعية لتعثر ثورات هذه الشعوب وكذلك كنتيجة غير مباشرة لغياب مشروع إمبريالي قادر على فرض تفاهمات قابلة للحياة على هذه النخب، وهي الاستراتيجية التي تتعثر بدورها على وقع  استمرار الأزمة الاقتصادية في المراكز الرأسمالية الرئيسية. تواجه الشعوب العربية إذن الوجه الحقيقي للمسخ الرأسمالي  عندما يُترك دون رادع وما يمكن أن يفضي إليه من فوضى تتحدى كل الادعاءات العقلانية لدعاته الأيديولوجيين. ينعكس ذلك الوضع داخليًا في مصر بأكثر من شكل ويفرض تحديات على القوى الديمقراطية وفي القلب منها اليسار المصري كما يفتح فرصًا لنضال متجدد من أجل انقاذ مشروعها المدني الديمقراطي الإجتماعي- مشروع الثورة الأصلي.

 * انهيار السلام الإمبريالي في المنطقة:

    يعيش العالم الآن ما يمكن أن نطلق عليه مرحلة ما بعد السلام الإمبريالي الأميريكي، وهو السلام الذي امتد منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وحتى اندلاع الثورات العربية على وجه التقريب. استطاعت الولايات المتحدة باستنادها إلى نمو اقتصادي ثابت ومستدام وتفوق عسكري غير مسبوق أن تلعب دور الضامن والحامي للنظام الرأسمالي العالمي طوال العقدين الماضيين. لعبت الولايات المتحدة دورًا محوريًا في فرض نموذج الليبرالية الجديدة سواء عبر علاقاتها الخارجية بشكل مباشر أو عبر دورها الوازن داخل مؤسسات التمويل الدولية كصندوق النقد الدولي، أو الأطر الجديدة المنظمة للتجارة العابرة للقارات كمنظمة التجارة العالمية. كذلك هيمنت الولايات المتحدة على الدبلوماسية الدولية تقريبًا بالتعاون مع الأمم المتحدة أحيانًا وبتجاوزها في أغلب الأحيان. وأخيرًا وظفت قدراتها العسكرية للتدخل في مناطق النزاعات الأهلية حيث تنهار مؤسسات الدولة، ولرعاية مسارات سياسية كاملة قائمة على متلازمة الليبرالية الجديدة والديمقراطية مفرغة المضمون المقتصرة على الانتخابات الدورية والمتنكرة لأي حقوق إقتصادية واجتماعية. حدث ذلك في مسارح مختلفة بدءًا من حرب الخليج الثانية وعبر إفريقيا جنوب الصحراء في ليبيريا وسيراليون والصومال وفي البلقان عبر عمليان حلف الأطلنطي وفي أميركا الاتينية بدءًا من بنما وانتهاءًا بنيكاراجوا. بدت الهيمنة الأميريكية خلال هذه الفترة “قدرًا” وارتكنت النخب الرأسمالية والسياسية شمالًا وجنوبًا لهذا التصور.

      لم تكن النخب في العالم العربي استثناءًا من هذا التصور. فشهدت مرحلة ما بعد “عاصفة الصحراء”١٩٩١ تفكك دول معسكر “الرفض العربي” التي عارضت مسار كامب ديفيد في حينه وما سبقه ورافقه من سياسات تحول رأسمالي. فقد انخرطت  هذه النخب الرافضة نفسها في نفس المسار تحت وطأة أزماتها الاقتصادية المتفشية وسعيًا للحفاظ على استبدادها بعد تجميله برتوش ديمقراطية. من هذا المنطلق، رعت الولايات المتحدة مسارًا لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي شاركت فيه منظمة التحرير الفلسطينية والنظام السوري، وقبل به النظام الليبي، وهي نفس القوى التي ادعت طويلًا قيادة خيارالمقاومة، هذا بخلاف مشاركة المملكة الأردنية الهاشمية بالطبع. افتتحت كذلك النخب المصرية من خلال شراكتها مع الولايات المتحدة مرحلة جديدة من مراحل التحول الرأسمالي عبر سياسة ليبرالية جديدة قحة تعتمد على تعويم العملة وخصخصة منشآت القطاع العام وبعض المرافق العامة وتحرير الإيجارات الزراعية وكذلك إيجارات العقارات وإخضاع علاقات العمل لنفس المنطق الليبرالي الجديد من خلال قوانين منظمة للعمل تتنكر لأبجديات التفاوض الجماعي للعمال والمتمثلة في كفالة الحق في الإضراب وضمان استقلالية وتعدد النقابات العمالية. أما في ممالك الخليج -والتي تعاونت بشكل نشط مع الولايات المتحدة للقضاء على التواجد السوفيتي في أفغانستان قبل سنوات-  فتكفلت البوارج الأميريكية بتحييد الخطر الإيراني وفرض أمر واقع يصعب خرقه. باختصار كانت منطقة الشرق الأوسط نموذجًا لحالة السلام الإمبريالي المفروض أميريكيًا.

     في هذا السياق، كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر  ٢٠٠١ محصلة لتفاعلات هذا السلام وتناقضاته. فمن زاوية أولى، جاءت هذه الهجمات كثمرة غير مباشرة للتعاون بين الولايات المتحدة والرجعيات العربية في أفغانستان وغيرها كما سبق الذكر. ومن ناحية أخرى، كانت هذه الهجمات مؤشرًا على فشل تجارب نخب الاستقلال السلطوية في التحديث والتنمية إذ أدى استبدادها وفشل نهجها التنموي في تغذية التيارات الإسلامية على اختلاف أنواعها السياسي منها والعنيف. ومن ثم كان الرد الأميريكي خلال إدارة بوش الإبن يدفع باتجاه تسريع وتيرة التحولات الليبرالية الجديدة والقضاء على كافة الجيوب المناوئة للسياسات الأميريكية في المنطقة بغض النظر عن لافتاتها الأيديولوجية. من هنا اختمرت فكرة إزاحة صدام حسين واحتلال العراق في عملية استعمارية كلاسيكية تصلح كنموذج مهدد لأعداء الولايات المتحدة في إيران -وبدرجة أقل في سوريا- يسهم في حصارهم وعزلتهم، وكنموذج ضاغط على حلفائها يسهم في تسريع وتيرة ما تراه إدارة بوش مخرجًا وحلًا للأزمات المولدة للعنف.

     وبالفعل، عقب احتلال العراق في ٢٠٠٣ أعلنت إدارة بوش عن استراتيجيتها تلك بشكل صريح فيما عرف وقتها بمبادرة الشرق الأوسط الكبير والتي تبنتها مجموعة الثماني الصناعية الكبرى في بداية ٢٠٠٤ كاستراتيجية معتمدة تحكم علاقتها بالمنطقة. ارتكزت الاستراتيجية على الدعامتين  ذاتهما- ليبرالية جديدة كطريق وحيد للنمو الرأسمالي وإجرادات ديمقراطية مفرغة المضمون تكفل استيعاب التيارات الإسلامية التي وصفت بالمعتدلة، كالإخوان في مصر مثلًا بما يسهم في تحييد المكون العنيف في التيارالإسلامي. في هذه الرؤية المبتسرة للديمقراطية لا مكان للحقوق الإقتصادية والإجتماعية للجميع نساءًا ورجالًا والتي تعصف بها إجراءات الليبرالية الجديدة عصفًا، بل ولا مكان حتى للمكون التحرري الفردي – والذي تعبر عنه حزمة الحقوق والحريات الدينية أوتلك الحقوق التي تم انتزاعها في سياق النضال النسوي ضد النظام الأبوي. كل ذلك جرى التضحية به في سبيل افساح المجال “للتيار الإسلامي المعتدل”، والذي لم يقدم على مر تاريخه أي مراجعات يعتد بها لرؤيته الرجعية لهذه القضايا.

     إلا أن الرياح لم تأت كما تشتهي السفن الأميريكية، وما أُريد له أن يكون نموذجًا لحرب إمبريالية ناجحة تحول لأول مسمار  في نعش مرحلة الهيمنة الأميريكية الطويلة. فكل السياسات الأميريكية في العراق قد أفادت من حيث لم ترد أعداء الولايات المتحدة. فاجراءات مثل حلّ الجيش العراقي وسياسة اجتثاث البعث والارتكان للمحاصصة الطائفية، والتي انتهجها الحاكم الأميريكي للعراق بول بريمر، لم تؤد إلا لزيادة التعبئة المذهبية في صفوف الأقلية السنية ومدّ هذه التعبئة برصيد بشري جاهز  للانخراط في الأنشطة المسلحة. كذلك تحولت هذه الأقاليم السنية لبيئة حاضنة للجماعات الجهادية وعلى رأسها تنظيم القاعدة بالطبع والذي حظي بتسهيلات من قبل النظام السوري -المضغوط أميريكيًا- سمحت له بالتوطن وتأسيس تحالفات راسخة مع عناصر الجيش والبعث والعشائر السنية. في المقابل، لم تسفر سياسة المحاصصة تلك إلا لدعم حلفاء إيران من القوى الشيعية المحافظة في العراق والتي انتهجت بدورها سياسة طائفية نشطة ساهمت في تقسيم العراق عمليًا على خطوط التماس الطائفية والمذهبية وامتداد هذا التقسيم ليتحول لمحدد للتفاعلات الإقليمية. على الجانب الآخر، منيت المغامرة الإسرائيلية، المدعومة أميريكيًا، الساعية للقضاء على أحد أهم الأدوات الإيرانية في المنطقة وهو حزب الله، بفشل ذريع لم يسفر إلا عن تصاعد نقوذ الحزب في السياسة اللبنانية الداخلية وحصار حلفاء السعودية. كذلك لم تؤد المحاولات الإسرائيلية الحثيثة للقضاء على الإمكانات العسكرية لحركة حماس الفلسطينية الدعومة إيرانيًا بدورها إلا لتدعيم مركز الحركة في الداخل الفلسطيني وانتزاعها لدويلة في غزة بحكم الأمر الواقع.

    هذا على صعيد الأعداء… أما على صعيد الحلفاء، فلم تسفر محاولات الضغط الأميريكية بهدف التحرير الإقتصادي والانفتاح السياسي المحدود إلا لمزيد من المشاكل. فتسريع وتيرة السياسات الليبرالية الجديدة على يد الثنائي جمال مبارك وأحمد نظيف في مصر لم يؤد إلا لتصاعد موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات الاجتماعية والتي لم تتوقف حتى بعد شهور من اسقاط مبارك. ولم تسفر هذه الموجة من التحولات الرأسمالية إلا عن نتائج مماثلة في البلدان غير النفطية مثل الأردن ولبنان والمغرب وتونس والسودان. وهي موجة الاحتجاجات التي شكلت أحد إرهاصات الثورات العربية. كذلك كانت السياسات الفاشلة في العراق مصدرًا إضافيًا لقلق حليف آخر وهو الحليف التركي المتوتر نتيجة الاستقلال الكردي شبه التام في الشمال العراقي مما قاد تركيا خلال هذا الوقت عمليًا للاصطفاف المؤقت مع ما عرف بمعسكر الممانعة، أي حلفاء إيران عبر العالم العربي. أما حلفاء الولايات المتحدة التاريخيين في الخليج، فقد راعهم تصاعد النفوذ الإيراني في العراق والمرتكن للقوى الشيعية، خصوصًا في ظل الوزن الشيعي المعتبر في تركيبة الخليج السكانية، وهو ما حذا بتلك الممالك والمشيخات لتصعيد نبرة تعبئتها المذهبية بشكل غير مسبوق وتحويل مواجهة التشيع إلى سياسة رسمية داخليًا وخارجيًا. كذلك زاد من القلق الخليجي تصاعد الدور التركي في ظل حكومة أردوجان ذات الأصول والصلات الإخوانية والتي تمثل البديل السني الوحيد تقريبًا للنخب الحاكمة في هذه البلدان.

     باختصار لم تسفر المغامرة الإمبريالية الأميريكية في العراق إلا عن تصاعد الصراعات المذهبية والطائفية في المنطقة لدرجة غير مسبوقة تفوق قدرة الولايات المتحدة السياسية والعسكرية على احتوائها، هذا بخلاف تصاعد نفوذ أعداء الولايات المتحدة من الشموليتين الإيرانية والقاعدية نتيجة تصاعد هذا الصراع المذهبي. كذلك أسفرت هذه المغامرة عن انتقال مراكز النفوذ الإقليمي السياسية والعسكرية إلي خارج العالم العربي وتحول أطراف غير عربية – تحديدًا تركيا وإيران – إلى لاعبين رئيسيين في السياسة الداخلية للدول العربية في ظل غياب كامل لأي نظام إقليمي عربي قادر على موازنة هذا النفوذ. باختصار خلقت السياسة الأميريكية في الإقليم حالة من الفراغ التي عجزت هي نفسها عن السيطرة عليها، والتي تعجز أي قوة محلية أو إقليمية علي ملئها بشكل كامل. كل هذه التحولات شكلت مقدمات لتراجع النفوذ الأميريكي على الصعيد العالمي، خصوصًا مع صعود قوى إقليمية جديدة قادرة على لعب أدوار سياسية وعسكرية في محيطها الاستراتيجي، مثل الصين والبرازيل، مثلًا أو استعادة قوي قديمة لشيئ من نفوذها السياسي والعسكري كروسيا.

     إلا أن الضربة القاضية لهذه الهيمنة الأميريكية المطلقة تمثلت في الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت المراكز الرأسمالية الرئيسية مع العام ٢٠٠٨ وأثرت بشكل جوهري على كافة العوامل التي سمحت للولايات المتحدة بلعب دورها المهيمن سواء لجهة تراجع مكانة الدولار نفسه، أو لتزايد الاعتماد على الاحتياطيات النقدية الهائلة التي راكمتها اقتصاديات كالصين أو اقتصاديات الخليج نفسها، والتي يجري توظيفها عبر صناديق سيادية بالأساس، أو نتيجة للانكفاء إلى الداخل لاحتواء آثار الزلزال المالي وما يعنيه ذلك كله من تراجع لجاذبية ونجاعة نموذج الليبرالية الجديدة الذي بشرت به الولايات المتحدة سواء لدى حلفائها أو حتى داخل نفس مؤسسات التمويل الدولية التي اعتمدت عليها طويلًا. مع وصول أوباما للسلطة كانت تتضح حدود القدرة الأميريكية سريعًا وهو ما تجلى في منطقتنا في سعي للتفاهم مع إيران بالأساس بشأن برنامجها النووي و انسحاب أميركي غير منظم من باقي الملفات الرئيسية مخلفًا وراءه فراغًا استراتيجيًا ضخمًا لم تكن هناك قوة مؤهله لملئه إلا القوى الرجعية على اختلافها…

* تعثر مسار الثورات العربية:

     في هذا السياق اندلعت الثورات العربية. واجهت الجماهير العربية المنتفضة منذ اللحظة الأولى فراغًا سياسيًا على الصعيدين المحلي والإقليمي. فبخلاف ما فصلّناه من معطيات إقليمية، كانت المجتمعات العربية بعد خمسة عقود متواصلة من الاستبداد والقمع قد وصلت لخط “الفقر السياسي” إن جاز التعبير. لم يكن هناك تنظيم نقابي أو مدني واحد، ناهيك عن الحديث عن حزب سياسي، مؤهل للعب دور قيادي في هذه الهبات الجماهيرية. ولهذا لم يخلف الانهيار السريع والمفاجئ لأنظمة بدت عتيدة، كنظام مبارك في مصر، إلا واقعًا مفتتًا تعصف به الطائفية والقبلية والجهوية وتتضائل فيه الروابط المدنية على اختلافها. في هذا السياق، انتعشت تاريخيًا التيارات الإسلامية على اختلافها كما ساهمت في إعادة انتاجه بالطبع. وكما هو معروف، لم تكن هذه القوى الإسلامية هي المبادرة بالدعوة أو الحشد لهذه الاحتجاجات الجماهيرية ولا كانت صاحبة دور قيادي فيها، إلا أنها طرحت نفسها في المقام الأول كقوة قادرة على احتواء هذه الانتفاضات الجماهيرية وتدجينها وتفريغها من مضمونها التحرري الإجتماعي وذلك عبر سحبها لمجارير الدعاية الطائفية واستئناف سياسات الليبرالية الجديدة التي كانت سببًا رئيسيًا في اندلاع هذه الانتفاضات في المقام الأول.

     شكّل الصعود الإسلامي هذا معضلة بدوره للقوى الإقليمية التي تمخض عنها الانسحاب الأميريكي وبالأساس في الخليج العربي. فبينما تشكل هذه القوى الإسلامية مصدرًا تاريخيًا للقلق بوصفها بديلًا محتملًا للنخب المتحللة في هذه الممالك والمشيخات، إلا أنها تشكل بحكم طابعها الطائفي المحافظ أخف الضررين، إن جاز التعبير، لموازنة التمدد الإيراني المقلق والذي وصل مداه في هذا الوقت من خلال دعم قوى موالية له بشكل مباشر في البحرين. هذا التناقض هو الذي حكم مواقف الخليج بالأساس تجاه القوى الإسلامية. فبينما دعمت ممالك الخليج مجتمعة الإخوان المسلمين في اليمن ممثلين بحزب “التجمع اليمني للإصلاح” للتخلص من علي عبد الله صالح واحتواء الانتفاضة اليمنية، وكذلك دعمت هذه الممالك طائفة من القوى الإسلامية في سوريا والعراق (وفي هذه الحالات كان التهديد الإيراني حالًا سواء بالدعم المباشر لنظام الأسد أو بالعلاقة غير المباشرة بالحوثيين في شمال اليمن)، اتجهت هذه الممالك لمناصبة هذه القوى الإسلامية العداء الصريح في مصر وبدرجةٍ أقل ليبيا حيث الابتعاد عن مصدر التهديد الإيراني (مع الاستثناء القطري بالطبع والذي يخرج تحليله عن إطار تقريرنا).

وفي كل الحالات كان للاحتياطيات المالية غير المسبوقة الدور المحوري. ففي سوريا لعبت هذه الفوائض دورًا محوريًا في تصنيع فصائل إسلامية سنية من العدم تقريبًا “ككتائب أحرار الشام” أو “جيش الإسلام” على حساب الفصائل المدنية المناضلة والتي تشكلت تلقائيًا من جماع المنخرطين في الانتفاضة والمنشقين عن الجيش. ولعبت تركيا على وجه الخصوص دورًا في تسهيل توطن داعش و”جبهة النصرة”  -وهي الفصائل الإسلامية الأكثر عنفًا وإجرامًا- في الشمال والشرق السوري. وفي مصر، فقد استقبلت حكومات ما بعد الثالث من يوليو ما يقارب العشرين مليار دولار، وفقًا لأكثر التقديرات دقة، اتخذت شكل ودائع دولارية في البنك المركزي أو منحًا لسد عجز الموازنة، هذا بخلاف الشراكات المباشرة مع الصناديق السيادية الإماراتية على وجه الخصوص لتمويل مشروعات تسهم في رفع شعبية هذه الحكومات كمشروع المليون وحدة سكنية (المُعطل حتى الآن). وفي العراق كذلك، مارست هذه القوى الخليجية دورًا في تسهيل التقارب ما بين البعثيين السابقين، من جانب وداعش وغيرها من الفصائل الإسلامية المسلحة، من حانب آخر، بهدف السيطرة الكاملة على المثلث السني وفي القلب منه مدينة الموصل في صيف ٢٠١٤ إضعافًا للنفوذ الإيراني. ثم عادت نفس الفوائض لتمول غارات التحالف الدولي الهادف لاحتواء داعش، دون تحرير مجمل الإقليم السني بالطبع، وهي الكلفة التي تكاد تقترب من المليار دولار حتى الآن ومن المتوقع أن تتجاوز حاجز ال٢ مليار دولار مع انقضاء عام على بدء الغارات غير الفعّالة.

     في هذا السياق تأتي عمليات “عاصفة الحزم” و “إعادة الأمل” كمرحلة جديدة في هذه الاستراتيجية الخليجية الساعية لموازنة النفوذ الإيراني عبر تشكيل حلف عربي سني بالتعاون مع طيف واسع من القوى، يشمل قوى إسلامية تقليدية، لا يقل رجعية عن نظيره الإسلامي الشيعي. ولا يمكن فهم الجموح في تشكيل هذا التحالف والذي يضع المنطقة على شفير حرب لا يمكن لأحد التنبؤ بنتائجها إلا كرد فعل على التقارب لإيراني الأميركي الذي توج باتفاق إيران المبدئي مع مجموعة الدول الغربية بشأن برنامجها النووي والذي طالما تم تقديمه في إعلام “الممانعة” كشوكة في جانب الولايات المتحدة وإسرائيل!  

    الخلاصة، أننا أمام صراع يزداد اتساعًا وحدة مع الوقت بين أحلاف متغيرة جميعها رجعي سواء ما ادعى الممانعة منها أو ما ادعى الدفاع عن المصالح العربية: فلا الممانعة  تستقيم مع التفاهمات الإيرانية الأميريكية في العراق أو بشأن البرنامج النووي ولا الدفاع عن المصالح العربية يستقيم مع الانخراط في تدمير قدرات ثلاثة بلاد عربية على الأقل بالتحالف مع تركيا! في الواقع نحن أمام صراع نخب رأسمالية محلية من الطراز الكلاسيكي نتيجة لحالة الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة وراءها واستنادًا للفوائض المالية غير المسبوقة والتي زاد دورها نتيجة للأزمة المالية العالمية. وهي نفس الفوائض التي يبدو أنها ستستمر في لعب هذا الدور في المستقبل المنظور، خصوصًا مع التوقعات بعودة أسعار البترول للارتفاع المتدرج في العامين المقبلين نتيجة لتعافي الأسواق العالمية التدريجي بدوره.

مصر في قلب الفوضى الإقليميةأي آثار وأي استراتيجية؟

    نعود الآن لسؤالنا الأساسي عن آثار هذا المشهد الإقليمي على السياق المصري وعن استراتيجيات القوى المدنية الديمقراطية وفي القلب منها اليسار للتعامل مع هذه التداعيات. ينعكس هذا السياق على الداخل المصري بأكثر من شكل. فمن ناحية أولى، تجد النخبة الحاكمة وعلى رأسها السيسي نفسها محصورة ما بين ضغطٍ من قبل حلفائها في الخليج، والذين قدموا الدعم السياسي والمالي السخي لمشروعها السلطوي كما سبق الذكر، وما بين سعيها للنأي بنفسها عن توترات الإقليم والتركيز على مواجهتها الممتدة مع التيارات الإسلامية في الداخل- وهو النأي الذي ارتكزت عليه شرعيتها بشكل شبه كامل. كذلك، يصطدم طموح هذه النخبة في تنويع علاقاتها الخارجية، استغلالًا لحالة الفراغ السابق الإشارة إليها، (كما تشير صفقة الطائرات الرافال الفرنسية أو استضافة بوتين وزيارة الصين) مع حقيقة اعتمادها شبه الحصري على الدعم المالي الخليجي أو اقتصار الاستثمار المباشر حتى الآن تقريبًا على هذه المصادر. فالمؤتمر الاقتصادي، الذي وصفه السيسي بأنه “ذراع مصر”، جرى تحت رعاية سعودية- إماراتية كاملة وشكلت المنح وعقود الاستثمارات الخليجية أكثر من ثلثي المتحصلات التي تمخض عنها المؤتمر. وحتى الآن، ووفقًا لتصريحات رسمية مصرية، لم يتلق البنك المركزي المصري أيٍ من الدفعات المتفق عليها في المؤتمر.

     من ناحية ثانية، وعلى ذكر المؤتمر الاقتصادي، فالنخبة الحاكمة تدرك كذلك قبل غيرها مدى هشاشة ما تحقق في شرم الشيخ وأنه لا يبلغ حد الانجازات التي تخول لها الانجرار لمغامرات عسكرية إقليمية. فحوالي ثلثي الاستثمارات الموعودة تتركز في المجالات التقليدية التي اعتمد عليها الاقتصاد المصري بشكل غير صحي حتى من وجهة نظر كهنة صندوق النقد الدولي أنفسهم وهي قطاعات الطاقة والخدمات (كالموانئ والنقل). أما حضور مؤسسات التمويل ذاتها في المؤتمر فلم يكن بحد ذاته كفيلًا في رفع التصنيف الإئتماني لمصر أعلى من المرتبة “ب” إلا أنه لم يصل حتى للمستويات السائدة قبل الثورة.

     ومن ناحية ثالثة، تنعكس استراتيجيات التأزيم المذهبي التي تعصف بالإقليم على حال الحريات الدينية وما يتصل بها من حريات الرأي والتعبير المتأزمة أصلًا. فعلى الرغم من ابتعاد مصر تاريخيًا عن أتون الصراعات السنية – الشيعية، إلا أن استعار تلك الأخيرة قد سمح للأصوات المحافظة والرجعية داخل مؤسسات الدولة وخارجها في انتزاع مزيد من المساحات كما يتجلى في سعي الأزهر مثلًا لتأسيس كهنوت سني وهو سعي يتناقض مع كل الدعاوى المعلنة للإصلاح الديني أو تجديد الخطاب الديني وفقًا لتصريحات السيسي المتتالية.

      ومن ناحية رابعة، فهذا الابتزاز الخليجي للنخبة الحاكمة يقابله غزل صريح من قبل الحركة الإسلامية، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين للقوى الخليجية ومحاولة إعادة تقديم نفسها مرة أخرى لهذه القوى بوصفها طرفًا يمكن الاعتماد عليه في تحالفها السني الرجعي. وتجيد القوى الخليجية لعب هذه الورقة الإخوانية، خصوصًا في الإعلام، عبر حديث المصالحة والتركيز المبالغ فيه أحيانًا على تحول ما في توجهات البيت الملكي السعودي عقب وفاة الملك عبد الله باتجاه الابتعاد قليلًا عن السيسي الذي يبدو أن ضرره أكثر من نفعه (هكذا يقال صراحةً في بعض الأحيان في بعض المنابر الإعلامية القريبة من العائلة المالكة السعودية). هذا الغزل وهذا الابتزاز يقدمان دليلًا إضافيًا على أن أي عودة للإخوان للمجال السياسي فلن تكون إلا عبر بوابة الضغوط الخليجية وللعب أدوار أكثر رجعيةً من تلك التي حاولت لعبها في ٢٠١١ و٢٠١٢.

      من المبكر التنبؤ بنتيجة هذه الضغوط والتي قد لا تسفر عن شئ سريعًا، خصوصًا مع الحصاد الهذيل لعمليات “العاصفة” في اليمن حتى الآن والتي قد لا تغري السعودية نفسها في الاستمرار في قصفها العبثي وتلجئها إلجاءًا إلى القبول بالأمر الواقع. ولكن ما ينبغي التشديد عليه هنا أن هذا المأزق الذي يجد فيه السيسي نفسه هو حصاد طبيعي للنهج الاستبدادي الداخلي. فمحاولة تحصين النخبة الحاكمة منذ ٣ يوليو ضد أي تأثير سياسي محتمل سواء أتى من أنصار هذه النخبة نفسها وراغبي التعاون معها أو من القوى المدنية الصاعدة منذ ٢٥ يناير، إما بالتأجيل المستمر للانتخابات البرلمانية أو بالقمع الفج، لم تسفر إلا عن وقوع هذه النخبة أسيرة لنفوذ أشد القوى محافظةً و رجعيةً داخل جهاز الدولة، كما في حالة الأزهر، أو داخل النخب الرأسمالية المحلية أو الإقليمية. فكلما ازداد استبداد نخبة السيسي كلما تقلص هامش مناورتها بشكل لا تخطئه العين. وبالتالي فما هلل له البعض في البداية بوصفها استراتيجية ناجعة “لاستعادة الدولة” وعزلها عن فوضى المجال السياسي، ينتهي به الحال بالدولة أسيرة لهذه الفوضى أوما يسمى في الإعلام المناصر للسيسي “بالمصالح الخاصة”.

    لا نقول هذا الكلام من قبيل إسداء النصح للسيسي ونخبته كما جرت عادة المعارضة الرسمية منذ زمن مبارك، كما أن النصح ليس دورنا على أي حال. ولكن نقوله من باب إضاءة كافة جنبات المشهد أمام مناضلينا وهو مشهد ملئ بالتناقضات ونقاط الضعف، وما أُريد له أن يكون حكمًا قمعيًا مطلقًا ينقلب الآن مأزقًا على الساحر. وعبر هذه الثقوب تتكشف الفرص وتتحدد المهمات.

     إن القوى الديمقراطية المصرية أمامها فرصة وعليها واجب وهو الوقوف بحزم ضد أي محاولات لجرّ مصر إلى أتون الحرب في اليمن ليس فقط بوصفها حربًا لا ناقة للدولة المصرية فيها ولا جمل حرفيًا، ولكن بوصفها محطة في سياق حرب أشمل على ثورات الشعوب العربية كما سبق الذكر. إن الدعاية الواضحة والتي لا تحتمل تأويلًا ضد هذه الحرب تستند إلى تململ واضح لا تخطئه العين في صفوف القطاعات المدينية المؤيدة للسيسي بالأساس. فبينما تحمست هذه القطاعات للضربة الجوية ضد عدد من الأهداف في ليبيا تحت وطأة الذبح الوحشي للعمال المصريين هناك، لا تستسيغ مغامرة عسكرية غير واضحة الأهداف بالتحالف مع أمراء الخليج. وبينما قد تستسيغ بعض هذه القطاعات قمعًا ضد النشطاء الديمقراطيين على خلفية الدعاية بشأن قضية معتقلي الرأي مثلًا، فإن قمع معارضي الحرب لن يكون مستساغًا أبدًا، خصوصًا في ظل التعثر الواضح في الحرب الدائرة فعليًا في سيناء ضد عصابات داعش وأخواتها.

     إن على مناضلينا واجب استغلال هذه الفُرجة لتطوير خطاب واضح يربط ما بين الأبعاد المختلفة للمشهد من دعم خليجي سخي في المؤتمر الاقتصادي واعتماد شبه حصري على رؤوس الأموال الخليجية وبين الحروب الدائرة في الإقليم تحت رعاية خليجية مباشرة وربط ذلك كله بمأزق الاستبداد وتناقضاته وكيفية انتهائه إلى نتائج تعاكس تمامًا مضمون دعايته. هذا بخلاف  فضح جماعة الإخوان المسلمين ومن خلفها مجمل القوى الإسلامية والتي تنخرط الآن في عملية تبييض وجه لرعاة جدد محتملين لها كفصيل سني في حلف رجعي مدمر لمستقبل شعوب المنطقة.

      و كذلك  على مناضلينا واجب أيضًا في مواجهة موجة التحريض الطائفي والمذهبي والتضييق على الحريات الدينية وحريات الرأي والتعبير والتي يقودها الأزهر في الواقع استنادًا إلى واقع الصراع المذهبي في الإقليم. لن يتصدى إلا اليسار لهذه المهمات المبدئية خصوصًا في ظل انكشاف حدود ما يعنيه السيسي بالإصلاح الديني وفي ظل تبدد رهانات القوى الليبرالية والوطنية التقليدية على ما تظنه وسطية واعتدال في خطاب مؤسسة الأزهر العتيدة. نحن لا نتحدث هنا عن دعاية مجردة باسم المدنية والعلمانية والحداثة، فشتان الفارق ما بين عمل المناضلين وعمل متحاوري الفضائيات، بقدر ما نتحدث عن دعم حقوقي وسياسي لأفراد وفئات تتعرض لعصف بحقوقها الدستورية لمجرد الخلاف مع مؤسسات تعليمية دينية رسمية.  

     وأخيرًا، فالتحولات التي تعرضنا لها قد كشفت من ضمن ما كشفت عن عمق الطابع الإقليمي لمشاريع الثورات المضادة المختلفة في العالم العربي والتي تتحرك وتتفاعل دونما تقيد بالحدود السياسية التي تشكلت منذ ما يقارب القرن من الزمان. تقتضي مواجهة هذه الهجمة الرجعية الشاملة تنسيقًا بين القوى المدنية الديمقراطية الإجتماعية على المستوى الإقليمي كذلك بهدف الحفاظ على تماسك الشعوب العربية في مواجهة التعبئة والتحريض الطائفيين من كل الجبهات والعمل كذلك على تقديم مختلف أشكال الدعم الممكنة إعلاميًا وسياسيًا للنضالات المحلية الهادفة لمحاصرة سيناريوهات التفكك تلك وللنضال كذلك ضد “بدائلها” الاستبدادية على طريقة السيسي ونخبته والتي تروج للقمع والتوحش الأمني كمخرج وحيد من الأزمة المستحكمة في العالم العربي. إن هذا التنسيق هو خطوة أولية ملحة لا غنى عنها وإن كانت غير كافية بالطلع إذ يجب أن تقترن بعمل دؤوب لصياغة بدائل ديمقراطية وإجتماعية متماسكة لسيناريوهات الاستبداد والحرب الطائفية والإفقار الرأسمالي.