السابع من أكتوبر في ذكراه الأولى

حرب إسرائيلية شاملة على شعوب المنطقة برعاية أمريكية ومهام ملحة على عاتق القوى الديمقراطية في مصر

مقدمات وسياق التمرد الفلسطيني الكبير:

عام مضى على تمرد الشعب الفلسطيني في غزة على مخطط معلن للقضاء على وجوده عبر حرمانه من كافة حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وعلى رأسها حقه في تقرير مصيره. كانت السنوات القليلة السابقة على السابع من أكتوبر هي سنوات الحديث المعلن عن نهاية “القضية الفلسطينية” للأبد عبر ما عرف “باتفاقيات أبراهام” للتطبيع بين عدد من دول الخليج وإسرائيل، أو “صفقة القرن” وغير ذلك من عناوين.

هذه المسميات جميعها تحيل لمشروع واحد، وهو تدشين نظام إقليمي جديد يضم ممالك الخليج، وبعض جمهوريات المنطقة، وإسرائيل بالطبع، بهدف إخضاع شعوب المنطقة بالكامل لهيمنة الطبقات الحاكمة الرجعية التي انتصرت على انتفاضاته خلال العقد الماضي ضد الاحتلال، والإفقار، والاستبداد: حلف رجعي واحد تضمنه إسرائيل بقوة السلاح، يفرض على شعوب المنطقة الخضوع التام لسياسات إفقار ممنهجة تنزح الثروات والأصول لمراكز التمويل الخليجي، وتحول قطاع من البشر لقوة عمل رخيصة في خدمة أقلية هامشية لا تذكر، وتلقي بالبقية لدائرة البطالة المعممة.

ويتم ذلك كله برعاية الولايات المتحدة المستفيدة من هذه التحولات في دعم اقتصادها المأزوم بشكل هيكلي، وحماية تدفقات الطاقة، وغلق ملف أي تمرد شعبي واسع بالقوة العارية أيًا كانت قيادته وشعاراته، والحيلولة دون تمدد منافسيها العالميين للإقليم.

هذا كان الواقع قبل السابع من أكتوبر، وهو الواقع الذي عشناه في مصر إفقارًا وبؤسًا وتفريطًا في ثرواتنا الوطنية، وعاشه الناس في فلسطين عنفًا واستيطانًا وتشريدًا ويأسًا من أي مستقبل يتمتع فيه الإنسان بالحد الأدنى من الحياة الكريمة. وفي هذا الواقع، لا مكان حتى لدولة فلسطينية محاصرة تابعة لدولة الاحتلال والفصل العنصري، فقط سجون متجاورة للشعب الفلسطيني تشرف عليها سلطة حكم ذاتي تسمى زورًا بالوطنية، وتهدف بالأساس لضمان خضوع السكان للاحتلال، وتلقي لهم بالفتات الذي تجود به الطبقات الحاكمة في الإقليم.

هذا المصير المطروح كان على درجة من الفجاجة لدرجة عدم قدرة سلطة أوسلو -الراغبة في “السلام” دائمًا وأبدًا- القبول به.

في مواجهة هذا المصير الكئيب، انفجر التمرد الفلسطيني الكبير من غزة لإفشال مخطط الإخضاع السياسي لشعوب المنطقة ككل، وقلب الطاولة على مهندسيه. ولكن هذا التمرد، بالرغم من عدالته وشرعيته، خرج محملًا بكل تناقضات واقعنا: شجاعًا، باسلًا، قادرًا على الإيلام، مسلحًا بإبداع الكادحين المحاصرين، ولكن مفتقرًا لأهداف سياسية محددة بدقة، ومحاصرًا بعجز الشعوب وتآمر الطبقات الحاكمة المفضوح، ومتسمًا بقدر كبير من العشوائية أوقعته في ممارسات ضارة بعدالة قضيته، ومطعونًا بانقسام سياسي خطير بين مكونات الشعب الفلسطيني نفسه، وتحت قيادة حمساوية ساهمت بدورها في تعزيز هذا الانقسام وتغذت عليه. هذه التناقضات لا تطعن أبدًا في شرعية وعدالة ما حدث، ولكن من الضروري إدراكها لفهم الوضع الحرج الذي انتهينا إليه بعد عام من الحرب.

طبيعة حرب الإبادة الإسرائيلية وتداعياتها:

في مواجهة الضربة القاتلة لترتيباتها الأمنية والسياسية، لجأت الحكومة الفاشية الإسرائيلية الحالية إلى “الخطة باء” إن جاز التعبير، أي فرض “صفقة القرن” بالذبح والتهجير، بعد أن أفشل الشعب الفلسطيني إمكانيات فرضها بالتفاوض. وما كان يقدم على مدار العامين الماضيين كفرصة تاريخية لشعوب المنطقة، انكشف وجهه الحقيقي بوصفه مسار إخضاع وإذلال تام إما قبوله غير المشروط أو مواجهة الإبادة الجماعية ولا أقل.

في المقابل تواطئت باقي أطراف هذا المشروع في الخليج بأشكال مختلفة، وفوقها الراعي الأميركي بالطبع، وانتظرت تراقب الجزار الإسرائيلي للانتهاء من مهمته المعلنة المستندة للسلاح والعتاد والتمويل الأميركي.

وشهرًا بعد شهر كانت الحرب الإسرائيلية تتوسع وتزداد شراسة وإجرامًا. فقد أدركت القيادة الفاشية الإسرائيلية أن الفرصة لائحة، وربما لن تعوض في المستقبل، لفرض وجودها على الجميع ككيان عنصري، وفرض احتلالها كأمر واقع أبدي، وما كان لها أن تفرط في هذه الفرصة بسهولة.

والآن تتحول هذه الحرب بعد عام واحد إلى حرب شاملة تشنها دولة الاحتلال على شعوب فلسطين، ولبنان، والعراق، واليمن، وسوريا، وإيران، والقائمة قد تطول في المستقبل القريب.

وفي سعيها لانتهاز فرصتها التاريخية، وتغيير كافة موازين القوى في المنطقة، لم تواجه إسرائيل أعدائها التاريخيين فقط، بل واجهت حلفاءها كذلك. فقد تحللت إسرائيل حتى من التزاماتها السابقة وفقًا “لاتفاقيات السلام” مع الدول التي بادرت إليه وعلى رأسها مصر. فضربت إسرائيل بمعاهدة السلام المصرية نفسها، وملاحقها الأمنية المختلفة، وآخرها اتفاق معبر فلادلفيا، عرض الحائط. والآن ترابض الدبابات الإسرائيلية على حدودنا الشرقية، وتنتزع لنفسها الحق في “تحييد” أي تهديد أمني مفترض بالسلاح الذي اختطف شهيدين غاليين من جنودنا.

أكثر من ذلك، تحولت إسرائيل إلى المتحكم التام في علاقة الدولة المصرية بقطاع غزة، وقواه السياسية وشعبه، من أول حركة البضائع والنشاط الاقتصادي و حتى الاتصالات السياسية، بل تحولت إلى الطرف المتحكم في علاقة مصر بالشعب الفلسطيني بشكل عام دون أن تلتزم حتى بالالتزامات المتعارف عليها قانونًا لأي قوة احتلال، هذا بخلاف تحكمها الكامل في قراري الحرب والسلم في المنطقة بما يجرّه من أعباء اقتصادية وأمنية جمّة على الشعب المصري.

ومصر، التي أثقلها نظامها الحاكم بالديون، وربط حياة سكانها بالكامل بتوجهات حكام الخليج، وحرم مواطنيها من أي هامش للمشاركة في تقرير مصيرهم، ابتلعت معارضتها لهذه الخطوات الإسرائيلية، واكتفت بغلق حدودها ومعارضة خيار التهجير دون طرح أي بديل، بل لم تبادر حتى لدعوة مجلس الأمن للانعقاد للنظر في الانتهاكات الإسرائيلية الفاضحة.

باختصار تكيفت الطبقة الحاكمة في مصر مع الأمر الواقع الجديد، بل إن بعض عناصرها بادر للتربح من مأساة الشعب الفلسطيني كما هو معلوم. والجميع في قمة الهرم الحاكم في مصر يراقب بدوره، وينتظر انتهاء إسرائيل من مهمتها بحثًا عن موقع في “النظام الجديد” الذي بشرنا به نتنياهو في الأمم المتحدة منذ أسابيع.

صمود المقاومة ومأزقها:

في مواجهة تلك الحرب الشاملة، مازالت المقاومة الفلسطينية، وحلفائها، صامدة بالرغم من الخسائر الفادحة التي منيت بها على صعيد القيادات والكوادر، وبالرغم من كل المآسي الإنسانية المروعة التي يمر بها شعبنا الفلسطيني.

ولكن كما كشفت هذه الحرب تواطؤ الطبقات الحاكمة وراعيها الأميركي، كشفت كذلك عن حدود مشروع المقاومة الإقليمية الذي قادته إيران على مدار عقدين من الزمان. استثمر التحالف الطبقي الحاكم في إيران في دعم المقاومة المسلحة الإسلامية، رفاقه التاريخيين منذ التأسيس، وكذلك في دعم عدد كبير من المليشيات الشيعية الطائفية في دول الجوار، كأداة للمساومة مع قيادة الإمبريالية العالمية للحفاظ على بقاء النظام بطابعه الطائفي الرجعي، وتوازنات قواه الاجتماعية الداخلية، وتحسين موقعه في شبكة العلاقات الرأسمالية العالمية نفسها بعد عقود من التهميش.

هو مشروع، بعبارة أخرى، يسعى للحاق بالنظام الإقليمي الجديد، عبر نفس آلياته الاقتصادية والسياسية. وفي مساومته تلك ساهم في تأجيج الانقسامات الطائفية والمذهبية، ودعم قوى رجعية صريحة، بما ساهم في إجهاض بدائل وطنية ديمقراطية عديدة في المنطقة كما رأينا في سوريا والعراق ولبنان واليمن خلال ثورات شعوبها المغدورة. لم يكن وحيدًا بالطبع في تخريبه لمجتمعاتنا، فقد سبقته الأطراف الخليجية كلها خصوصًا في الرياض وأبو ظبي، ولكن على الأقل لم تدّع هذه الأطراف دعمًا للمقاومة أو مواجهةً مع إسرائيل.

حملت المقاومة المسلحة في فلسطين ولبنان أوزار هذا الاستثمار الإيراني. بالطبع أفادت المقاومة من الدعم بالسلاح والمال، في وقت تواطأت وتآمرت فيه باقي نخب الطبقات الرأسمالية الحاكمة المندمجة تمامًا في الترتيبات الإمبريالية للمنطقة.

ولا يحق لأحد أن ينتقد لجوء طرف مقاوم محاصر – كما في غزة أو في لبنان قبل الانسحاب الإسرائيلي في عام ٢٠٠٠ – لأي دعم عسكري وسياسي أيًا كان مصدره. ولكن هذه العلاقة الطويلة عرضت المقاومة لانكشافات أمنية وسياسية خطيرة رأينا آثارها في اغتيال اسماعيل هنية وحسن نصر الله، وكافة قيادات حزب الله تقريبًا، ورأينا ما هو أسوأ وأكثر مرارة من فتور وارتباك شعبي في دعم مقاومة هذه الفصائل للعدوان الهمجي على شعوبها. وهذا الوضع المعقد ينعكس كذلك على تكتيكات المقاومة نفسها ويزيدها ارتباكًا وترددًا كما نرى الآن في لبنان. باختصار، تبدو المقاومة متماسكة، ولكن مرتبكة ومحاصرة أمنيًا وسياسيًا، وشعوبنا تدفع الثمن الأغلى بالطبع.

آفاق حركة التضامن في مصر والإقليم والعالم:

للمفارقة لا يبدو أن هناك طرف يتحرك وفقًا لبوصلة سليمة، وبأفق ديمقراطي واجتماعي صريح، إلا حركات التضامن العالمية، خصوصًا في العواصم الغربية الكبرى، والتي فاجئت طبقاتها الحاكمة قبل أن تفاجئنا هنا. أدركت حركة التضامن تلك، بزعامة اليسار والقوى التقدمية عمومًا وبمشاركة قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى والعاملة، أن نخبها الحاكمة تستغل حرب الإبادة الإسرائيلية لدعم خياراتها داخليًا التي أفقرت الملايين وأدت لاحتكار السلطة في يد أقلية من أصحاب الثروات والنفوذ. بعيدًا عن الولايات المتحدة مثلًا، المعروفة بانحياز نخبها السياسية التاريخي لإسرائيل، نرى تنافسًا لعدد من النخب الحاكمة الأوروبية، كما في ألمانيا وهولندا، على تقديم الدعم العسكري والسياسي لحرب الإبادة الحالية في محاولة لإحياء مناخ “الحرب على الإرهاب” داخليًا، وما يقترن به من تضييق على الحريات العامة وتمرير أي خيارات متناقضة مع مصالح الأغلبية.

أضحت فلسطين، والحال كذلك، قبلة كل من يناضل ضد هذه الخيارات القاتمة على الصعيد العالمي، وقبلة كل الطامحين إلى عالم جديد يسوده السلام والعقلانية والديمقراطية، ويتمكن فقراءه و كادحوه من النضال في شروط أفضل.

وبالمقارنة بصلابة، واتساع، وصفاء أفق حركة التضامن العالمي، يبرز هزال وارتباك حركة التضامن العربي، وافتقارها لأي أفق سياسي واضح. ونحن في مصر لسنا استثناءًا من ذلك. فبينما ولدت الاحتجاجات ضد الحرب بشكل عفوي بين طلاب الجامعات أو النشطاء النقابيين المهنيين، وبعض الجماعات السياسية الديمقراطية، ودفعت أثمانًا غالية من اعتقالات ما زالت مستمرة حتى الآن بعد سنة من الحرب، لا تتوحد جهود هذه الحركة حول مطالب موحدة ومحددة بدقة تأخذ في اعتبارها حالة الضعف البالغ لمجمل الحركة الجماهيرية في مصر.

المهمة الأولى التي تعود لتطرح نفسها على جدول أعمال حركة التضامن المصرية بعد توسيع العدوان على لبنان هي الضغط بكافة السبل لوقف الحرب الإبادية الإسرائيلية. ولا يكون ذلك في حالتنا إلا بالضغط على النظام المصري لتفعيل ورقة المناورة الوحيدة التي نمتلكها وهي اتفاقيات السلام مع إسرائيل. يجب أن تتجه مطالبنا وتتوحد حول مطلب تعليق معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية وقطع كافة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل. قد يسهم ذلك، إن حدث، في دفع الإدارة الأمريكية للتدخل بهدف فرملة اندفاع حليفها الفاشي في تل أبيب. نرفع هذا الشعار ونحن ندرك أن حظوظنا في النجاح ضئيلة، ولكن على الأقل نطرحه على جمهور مشتت يشعر بالمرارة والعجز، ونعلن له أننا ما زال في أيدينا أوراق لن يوظفها إلا نظام يستمد شرعيته من رضا محكوميه، لا من رضا شبكات رأس المال العالمي والإقليمي.

المهمة الثانية تتمثل في تكثيف جهود الدعم المادي للشعبين الفلسطيني واللبناني سواء عبر قوافل الإغاثة التي تقوم عليها قوى نقابية ومدنية وسياسية، أو من خلال الضغط على الجهات الحكومية. هذه ليست محض مهمة إغاثية أو إنسانية. بالعكس، مسارعتنا إلى إغاثة أهلنا في فلسطين ولبنان هي إعلان سياسي عن وحدتنا فى مواجهة مخططات الإخضاع والتقسيم، وتغذية النعرات الطائفية والعنصرية.

المهمة الثالثة تتمثل في مدّ جسور التواصل مع حركة التضامن العالمية بهدف تعميق حصار إسرائيل وعزلتها في كافة المحافل الدولية، ودعم جهود المحاسبة الجنائية الدولية الضعيفة حتى الآن، وطبعًا بهدف تكثيف الضغط على الحكومات الداعمة والراعية لإسرائيل لوقف دعمها المفتوح لحرب الإبادة.

هذه المهمات الثلاث مجتمعة هي مجرد خطوة أولى على طريق بلورة مشروع شعبي ديمقراطي بديل لمشروع إخضاع المنطقة للحلف العنصري الرأسمالي البازغ: مشروع يدرك تعقيدات الواقع الجديد من تلاقي أجندة الطبقات الحاكمة في الإقليم مع أجندة دولة الاحتلال، ويتعلم من أخطاء الماضي الفادحة وفي القلب منها الاستثمار في الطائفية، والارتهان الكامل لأحد التحالفات الطبقية الرجعية في المنطقة. وهذا المشروع لن يتصدى له إلا من يدفع فاتورة سياسات الإفقار والاستبداد والاحتلال والتهجير، أي الغالبية العظمى من شعوبنا التي يجب أن تعيد بناء أدواتها السياسية الوطنية الديمقراطية مرة أخرى: في مصر ببناء نقاباتها ومنظماتها المدنية الديمقراطية، وفي فلسطين باستعادة دور مؤسساتها الوطنية الجامعة وفرضها على الفصائل المنقسمة، وفي لبنان بإعادة تأسيس اجتماعه السياسي على قواعد جديدة لا تعترف بالمحاصصة الطائفية والمذهبية.

هذا طريق طويل وشاق، ولا يمكن أن نسلكه وسيف الإبادة مسلط على رقابنا، ولهذا فالأولوية، مرة أخرى، لحشد الجهود لوقف هذه الحرب. ولكننا، بالرغم من تقديرنا لخطورة المصير، وعظم المسئولية والمهام الملقاة على عاتقنا، نؤمن كذلك بيقين لا يتزعزع أن شعوبنا لن تعدم إرادة الحياة والمقاومة، وأن الموجة الفاشية التي تخيم على إقليمنا، والعالم، إلى زوال إذ أنها لا تبشر بأي مستقبل من الأصل – فقط تعلن نيتها في حرب دائمة شعواء على شعوبنا لن تولّد إلا مزيدًا من المقاومة.

عاش صمود وكفاح الشعب الفلسطيني البطل، وعاش صمود وكفاح الشعب اللبناني، وعاش صمود وكفاح كل كادحي المنطقة: صناع الحياة والحضارة في مواجهة برابرة العصر الرأسمالي الحالي…