نرفض الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي ونتهيأ لموجة جديدة أشد صعوبة من النضال ضد الاحتلال والتبعية

في الثالث عشر من أغسطس الجاري أعلنت دولة الإمارات العربية عن توقيعها اتفاقًا لتطبيع العلاقات والتعاون الشامل مع إسرائيل في شتى المجالات برعاية أميريكية . يكلل هذا الاتفاق عشر سنوات من التقارب والتعاون الأمني والسياسي بين إسرائيل والإمارات، وعدد كبير من دول الخليج، والذي أصبح شبه علني خلال السنوات الثلاث الماضية. لا جديد يستدعي الدهشة إذن، ولكن عدم الدهشة لا يعني التهوين من خطورة وانحطاط ما حدث. فمن الواضح أن هذا الاتفاق سيكون فاتحة لخطوات أوسع على طريق هذا التعاون ينقله لحالة التحالف العلني بين غالبية النخب الحاكمة العربية ودولة الاحتلال والاستيطان… تحالفًا ليس فقط في مواجهة ما يعرف بالتهديدات الإيرانية، ولا غيرها من تهديدات أمنية لعروش تلك النخب، ولكن بالأساس في مواجهة أي حراك ديمقراطي اجتماعي لشعوب المنطقة يستهدف استعادة سيادتها على مقدراتها وتقرير مصيرها. إننا وإذ يثقلنا جميعًا العجز عن مواجهة مثل هذه التطورات بفعل القمع المنفلت والهزيمة السياسية الكبرى لثوراتنا، لا يسعنا إلا تسجيل رفضنا لهذا الاتفاق وما سيليه من باب مسؤوليتنا أمام الأجيال القادمة التي ستستأنف حتمًا نضال ثوراتنا المغدورة في سبيل تحرير إرادة شعوبنا.

إن القول بأن هذا الاتفاق، وغيره مما سيأتي حتمًا في قادم الأيام، موجه بالأساس ضد أي نضال ديمقراطي اجتماعي في منطقتنا ليس من قبيل المبالغة الخطابية، بل يستند إلى قراءة التاريخ والواقع. فكلما اتجهت النخب الحاكمة في منطقتنا يمينًا على طريق سياسات الليبرالية الجديدة، وأمعنت في استغلال شعوبنا وحصنت استغلالها هذا بالقمع الوحشي، كلما كان تقاربها مع دولة الاحتلال العنصري طبيعيًا وتلقائيًا. فإسرائيل تصبح أحد الأبواب لدوائر الحكم في واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية، والتعاون الأمني وتبادل الخبرات القمعية معها يطرح نفسه بشكل بديهي، كما أن دولة الاحتلال المسلحة حتى الأسنان تطرح نفسها كبديل جاهز لحماية تلك النخب المعزولة خصوصًا مع تراجع الحضور العسكري الأميركي المباشر في الإقليم كما أوضحنا في أكثر من بيان، هذا بخلاف الرغبة المتبادلة في التعاون بين رؤوس الأموال الخليجية والإسرائيلية والتي لا تفهم مفردات الديمقراطية والعدالة إذ أن علّة وجودها هو المزيد من استغلال شعوب المنطقة وتجريدها من أدواتها الديمقراطية. إن دولة الاحتلال التي طالما ضربت بكل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان أو القانون الدولي الإنساني عرض الحائط جاهزة، بل ومتشوقة، لتسليح تلك النخب في مواجهة شعوبها وتبادل خبرات الحصار والإرهاب معها، كما أنها بعد أن تفننت في سرقة ثروات الشعب الفلسطيني تحضر نفسها لاقتناص نصيب من فائض الثروات التي راكمتها شعوبنا العربية بعرقها ودمائها وتصب في إمارات الخليج. ومن ثم فنحن بصدد مشروع متكامل لنظام إقليمي جديد للشرق الأوسط تلعب فيه إسرائيل دور الضامن المسلح والمهندس السياسي ليرث النظام الإقليمي العربي الكسيح الذي فشل في تقديم الحماية اللازمة للطبقات الحاكمة في المنطقة ضد تهديدات منافسيها الإقليميين أو شعوبها الثائرة.

باختصار، كلما تحولت النخب المالكة للثروة وحلفائها في مقاعد الحكم لحالة أقرب للاستيطان من حيث غربتها وعدائها لشعوب المنطقة، يصبح من المنطقي تقاربها مع النموذج المثالي المكتمل للحكم الاستعماري الاستيطاني في منطقتنا. وهذا ما يفسر أن الاندفاع نحو إسرائيل كان دائمًا خيارًا لتلك النخب حتى لو لم تكن على خط المواجهة مع الدولة العبرية أو لم تكن لها سابقة مواجهة مسلحة معها. أما فرملة هذا الاندفاع التلقائي والطبيعي فكان انجازًا حصريًا لشعوب المنطقة وفي القلب منها الشعب الفلسطيني: شعوبنا هي التي حجمت هذا التوجه في فلسطين ما بعد أوسلو، ولبنان ما بعد الاجتياح الإسرائيلي في ١٩٨٢ وسوريا في بداية الألفية، وفرضت لسنوات طويلة جمودًا على العلاقات مع إسرائيل في الدول التي وقعت اتفاقيات سلام سابقة مثل مصر والأردن. وليس من قبيل الصدفة أن ينطلق قطار التعاون الإسرائيلي الخليجي في الوقت الذي تتراجع فيه موجة الثورات العربية الديمقراطية تحت وطأة القمع المباشر أو اليأس أو الانحراف إلى مهاوي الحروب الأهلية.

أما الشعب الفلسطيني فمن البديهي أنه سيكون أول من يواجه تبعات هذا الاتفاق. فالاتفاق الجديد سيكون مقدمة لتفعيل ما يعرف “بصفقة القرن”، آخر ما أنتجته النخب الأميريكية في طور انحطاطها لمحض سماسرة أراضي وعقارات تسعى للتكسب من المنطقة بأي شكل. لا حديث في هذه “الصفقة” عن سلطة حكم ذاتي منزوعة السلاح كما كان الحال في اتفاقيات أوسلو، ولكن احتلال دائم في مقابل كف شهية القتل والعدوان الإسرائيلي عن الشعب الفلسطيني لا أكثر. والعمولات الخليجية لرعاة الصفقة من عائلة ترامب حاضرة بالطبع. لن يقبل الشعب الفلسطيني بمثل هذا الوضع أبدًا ولن تقف شعوبنا العربية صامتة في مواجهة المجازر الإسرائيلية المحتومة أملًا في فتات لن يأتي من تعاون الطبقات الحاكمة في المنطقة مع عدو شعوبنا التاريخي.

بعبارة أخرى، هذا التحالف الجديد سيكون فاتحة لموجة جديدة من النضال الفلسطيني والعربي أشد صعوبة ولكن أكثر وعيًا بحقيقة توجهات النخب المالكة للثروة والمستحوذة على السلطة في منطقتنا وما يقتضيه تغيير توازن القوى المختل معها من استراتيجيات وتضحيات. وهي استراتيجيات تختلف بالطبع عن الطنطنة بقضية فلسطين في إعلام دول توغل بدورها في دم الشعوب العربية سواء تذرعت بمواجهة إسرائيل، كما هو الحال في سوريا وإيران، أو تشدقت بدعم الثورات بينما تجرها لمهاوي الحروب الأهلية كما هو الحال بشأن الدور القطري والتركي في ليبيا وسوريا. هذه الجماعات الحاكمة لا ترى في قضايانا إلا أوراق للمساومة مع الراعي الأميركي وأكدت الشواهد التاريخية أنها أول من يندفع للحاق بقطار التطبيع مع إسرائيل بمجرد أن تحسن شروط صفقتها، أو أنها سوف تسمتر في مساومتها عبر تخريب كل سبل التعايش بين شعوبنا.

إن شعوبنا وحيدة في هذه المعركة ولكنها أقوى في وحدتها تلك بمراحل من أوقات كانت تابعة فيها لجمهوريات وممالك حولت شعارات ثوراتها لوبال على مستقبلها. ومستقبل نضال هذه الشعوب مرهون ببلورة خطاب جديد وطني وديمقراطي واجتماعي بحق يدرك مكامن الخطر في الخطابات الطائفية والرجعية أو الخطابات الليبرالية الجديدة التي تحول الأوطان لمجرد قاعدة لنهب الشعوب. مستقبل نضالنا مرهون بإعادة تأسيس وحدتنا الوطنية على أسس جديدة من حرية ومشاركة، بل وقيادة، كل المستغلين في بلادنا أيا كانت أعراقهم وأديانهم أخذًا في الاعتبار أننا جميعًا ندفع ثمن الاستغلال والتبعية من دمائنا.