من ساحة الشهداء إلى ساحة التحرير… أمل جديد لشعوبنا وتحديات جديدة كذلك

من ساحة الشهداء في بيروت إلى ساحة التحرير في بغداد يسطر كادحو وفقراء ومهمشو المشرق العربي تاريخًا جديدًا، ويبثوا الأمل في نفوس أنهكتها الهزائم في منطقتنا على مدار السنوات الماضية. إن مايحدث في العراق ولبنان على مدار الأسابيع الماضية، وقبل ذلك ما حدث في السودان، هو الصورة الأكثر اكتمالًا للثورات الاجتماعية كما فهمها وناضل في سبيلها الملايين قبلنا في كل بقاع العالم، حيث الثورة هنا ليست فقط فعل انتفاض ضد الرموز والقيادات السياسية، و التي أفقرت الغالبية العظمى من شعوب المنطقة امتثالًا لوصايا صندوق النقد الدولي و غيره من مؤسسات التمويل الشبيهة و تكتل المقرضين في البنوك العالمية و حلفائهم من لصوص الأوطان الاحتكاريين في الداخل، و لكنها أيضًا ثورة ضد ما تستند إليه تلك الرموز السياسية وأسيادها الطبقيين من علاقات وبنى اجتماعية و قيم منحطة تساعدها على تمزيق الشعوب و التسلط عليهم و دفعهم للصراع فيما بينهم بدلا من الكفاح المشترك ضد سارقيهم. فكانت الثورتان والحال كذلك ضد الناهبين الطبقيين و ضد القيم الطائفية و رموزها و زعمائها، فكانتا أقرب ما يكون للثورات الإنسانية الشاملة…. عيدًا للمقهورين بحق.

كثيرًا ما كانت الثورة ضد النظام السياسي ممهدة لعودة نفس الحلف الطبقي الحاكم مرة أخرى بعد تجديد دماءه إما بغطاء ديني أو قومي أو طائفي أو تحت لواء حماية الأعراف و التقاليد و “النظام”. وماضي مجتمعات المشرق العربي متعددة الأديان و الطوائف، مثل لبنان و العراق و سوريا، شهد تحول انتفاضات عظيمة إلى حروب أهلية نتيجة عدم القدرة على استهداف جذور السلطة السياسية في العلاقات الاجتماعية الراسخة. وبعيدًا عن المشرق العربي فانتفاضات السودان في الثمانينيات و إيران في السبعينيات و الجزائر بعد 1988 بل و ثورة مصر 2011 نفسها كانت لتلقى مصيرًا أفضل لولا أن سعت الجماعات المتطرفة الى جرفها باتجاه مستنقع الدعاية الدينية أو الطائفية والمذهبية. ولكن حتى الآن يبدو أن جماهير لبنان والعراق قد وعت دروس الماضي البعيد والقريب جيدًا وأنها لن تنجر بسهولة لهذه الفخاخ.

و نحن إذ نثق برفاقنا من القوى المدنية الديمقراطية في العراق ولبنان و إصرارهم على تجاوز التركيبة الطبقية الحالية وغطائها الطائفي، فنحن نثق كذلك بقدرتهم على تدشين برنامج ديمقراطي عملي وواقعي لإدارة البلاد يستوعب موازين القوى الحالية، ويلهم جمهور الثائرين الأوسع ويعزز من وحدتهم، ويخرج بشعار تجاوز المحاصصة الطائفية من دائرة الأماني المجردة إلى الواقع السياسي العملي.

إن التحالفات الطبقية الحاكمة في كلا البلدين، ورعاتها في إيران والخليج وإسرائيل، لن تكتفي بالقمع المباشر و الاتهامات بالتآمر، فقد فات أوان هذه الأساليب وأفشلتها الجماهير ببسالتها المعهودة، بل ستجنح تلك التحالفات إلى استحضار أشباح الماضي وضغائنه للوقيعة بين الناس وبث الخوف في صفوفهم بهدف كسر وحدتهم التي كانت سلاح الشعبين الأمضى خلال الأيام الماضية. إن لبنان و العراق، كما كل بلاد العالم، لن يتحولا بين عشية وضحاها لمجتمعات من الثائرين تحتل الميادين وتقطع الطرقات، فهناك أيضا المتشككون والخائفون و الرجعيون و من لديهم القليل أو الكثير ليخسروه وغيرهم من الكتل المحايدة التي ستنضم الى الطرف الأقوى و صاحب الرؤية الأوضح حتى و لو كانت خاطئة… فكونوا أنتم أصحاب الرؤية والبرنامج والتنظيم ومالكي زمام المبادرة.

هذا الوضوح وهذه المبادرة هو ما افتقدته قوى الثورة التقدمية في مصر للأسف، والتي انتقلت سريعًا لخانة رد الفعل بمجرد رحيل مبارك فكان ما كان من هزيمتها. أما أنتم فطالعكم أفضل، إذ هشم نضال شعوبكم القشرة الوطنية التي طالما احتمت بها قوى طائفية ورجعية في العمق، ناضلت سابقًا ضد الاحتلال الإسرائيلي أو الإرهاب الداعشي، ولكنها ارتدت سريعًا – عند أول تحدي لها في الشارع من جماهير معدمة لا تلقي بالًا للتقسيمات الطائفية – لقواعدها كضامنين بالقوة المسلحة للطائفية ولمصالح الأحلاف الطبقية الحاكمة ومصالح رعاتها الخارجيين. فلا تسمحوا لهم بالعودة مرة أخرى لاحتكار الحديث باسم الوطنية أو المحرومين والمهمشين استغلالًا لغياب الرؤية والبرنامج والتنظيم.

يا ثوار العراق ولبنان: نثق بكم و بأنكم تسطرون مجدًا هائلًا، نتعلم منكم و من نضالكم الكثير و الكثير، وتذكرنا ثوراتكم مرة أخرى أن مصير شعوب المنطقة واحد، فيجب أن يكون طريقهم واحد… طريق الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية والمواطنة الكاملة للجميع بلا تمييز.