انقطاع التيار الكهربائي بين الاستدانة والاستهانة بمعاناة الفقراء

إن أزمة قطع التيار الكهربائي التي نعيشها منذ العام الماضي، والتي تفاقمت هذا العام متوافقة مع موجات الحر الشديدة، تبين ما وصل إليه هذا النظام في مستوى الحط من حياة المصريين. ففي الوقت الذي تراوح فيه عدد ساعات قطع الكهرباء من 3 إلى 6 ساعات في بعض المناطق المهمشة وقرى الصعيد، خرج رئيس الوزراء في مؤتمر صحفي ليعلن في 25 يونيو أنه وحكومته تفاجأوا للعام الثاني على التوالي بدرجات حرارة فصل الصيف المرتفعة، في تبرير لا يمكن قبوله بعد أن تحول قطع الكهرباء إلى كابوس يومي .

‎نحن لا نتحدث هنا عن أزمة تخطيط وسوء إدارة، بل يتجاوز ذلك إلى كيف ترانا الدولة؟ يبدو أن الحكومة كانت اتخذت قرارًا واعيًا بعدم الاستعداد للصيف وتوفير الغاز اللازم باعتبار أن معاناة المصريين هي أخف الأضرار، قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة ويزداد  الغضب الشعبي  بعد انقطاعات لساعات  ممتدة عرضت  حياة المواطنين للخطر، بالإضافة إلى الخسائر المادية والاقتصادية التي يتسبب فيها القطع أو عدم انتظام التيار الكهربائي، لتتحرك الدولة أخيرًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتوفير شحنات من الغاز لتتعامل مع الأزمة بعد تفاقمها.

إن قضية انقطاع الكهرباء هذا الصيف هي نتيجة مباشرة لسياسات هذه السلطة٬ فالغرق في الاستدانة والهرولة للحصول على الدولار لتسديد الديون وغياب الاستراتيجيات المتوازنة لتحصين المجتمع وحمايته هو السبب المباشر في   كل هذه الأزمات كما ظهر جليا هذا الصيف.

فلقد وجدت الحكومة المصرية في 2022 فرصة تصدير الغاز في سياق الحرب الروسية على أوكرانيا لجلب الدولار بتصدير الغاز المسال وتحولت مصر إلى مصدر أساسي لتصدير  الغاز من المنطقة لأوروبا ويبدو أن هذا التوجه في إنتاج سريع للغاز  من الحقول المصرية لتصدير أكبر كمية ممكنة في وقت قليل قد تسبب في استهلاك الحقول وتضررها مما أدى إلى تراجع الإنتاج، والذي كان  سببا أساسيا في أزمة الكهرباء التي نعيشها. فلقد  تراجع إنتاج الغاز في حقل ظهر بشكل ملحوظ منذ اكتشافه في عام 2015، ليسجل أدنى مستوى منذ 9 سنوات. كما يتداول أيضا رفض شركة إيني الإيطالية مطور الحقل استكمال العمل لحين الحصول على مستحقاتها، وارتفاع مديونية وزارة البترول.

كما أن الاتفاقيات مع دولة الاحتلال في الاستفادة بغاز حقل تمار إما بالتصدير من خلال محطات التسييل المصرية أو الاستفادة به محليا قد تحول إلى سبب إضافي لهشاشة وضع احتياطيات الغاز خصوصا بعد أن تراجعت دولة الاحتلال عن إمدادات  الغاز المعتادة في سياق حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة  وتبعاتها المحتملة من حرب شاملة في الإقليم. باختصار: تعاملت السلطة مع توفير الغاز للاستهلاك المحلي باستهانة شديدة، واعتبرته أقل الاعتبارات أهمية وتبنت خيارات  فيها الكثير من التسرع  والمغامرة في  التعامل مع ملف أمن الطاقة تحت تأثير الأزمة الاقتصادية الضخمة التي وضعت السلطة نفسها فيها بعد الغرق في الاستدانة والذي جعل مسألة توفير العملة  الصعبة أهم اعتبار لها.

إلا أن هذا لا يكفي لفهم أزمة الطاقة في بلدنا. الأزمة تكمن خلفها أيضا استراتيجية أثبتت فشلها٬ فالتسرع في زيادة قدرات الإنتاج عبر عقود هائلة مثل عقد إنشاء محطات سيمنز المبرم في 2015 والذي كلف الدولة ٩ مليار دولار وعدم العمل بشكل جاد علي تنوع مصادر الطاقة وتجهيز البنية التحتية لإدماج الطاقة المتجددة في خليط إنتاج الطاقة وعدم تبني توجه للتصنيع المحلي لمكونات إنشاء محطات الطاقة المتجددة واستخدام التطبيقات الذكية لادارة الشبكة القومية والكثير من الإجراءات  التي كانت يمكن أن تتسبب في تقليل الضغط على الوقود الأحفوري  وزيادة مكون الطاقة النظيفة في الكهرباء المنتجة، الأمر الذي كان سيوفر  بدائل  للتعامل مع التغيرات المناخية ومنها ارتفاع درجات الحرارة  واهتزازات سوق الوقود الأحفوري وفك جزئي وفعال لهذا الربط بين  قضية توفير الطاقة و قضية توفير  العملة الصعبة.

إن هذه السلطة ‎تبنت سياسات تسببت في تراجع مستوى معيشة أغلبية المصريين٬ وفي نفس الوقت لم  تتبنى  في معظم الملفات  استراتيجيات  رشيدة لتحصين المجتمع وحمايته وتأمين احتياجاته ومنها الطاقة. فأصبح واقع عموم المصريين  اليوم بالغ الصعوبة وأصبح المزاج السائد هو الشعور بالغضب وعدم اليقين في إمكانية تحسن الأوضاع. فالأمور تزداد  سوءً ولا يوجد أي مؤشر على أن هناك توجه لتبني سياسات بديلة لتحسين الأمور. بل يبدو أن ما تسببت فيه هذه السلطة لم يعد فقط واقعا مرا يعيشه المصريين بل  إرث بالغ الصعوبة يحتاج التعامل معه تحولا كبيرا في طبيعة السلطة  وطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع.. تحولًا تخضع فيه السلطة لأولويات الأغلبية وتسعى لتمثيلهم وتحسين  أوضاعهم ووضع رضا المجتمع  كمهمتها الأولى والأساسية.