الحق في التنظيم بين الواقع والقانون

بينما تعيش مصر فترة من أسوأ فتراتها الاقتصادية والاجتماعية التي تستدعي تضافر كافة القوى للخروج من عنق الزجاجة، تبذل السلطة التنفيذية ممثلة في العديد من الجهات جل جهودها في محاولات إخراس الأصوات النقابية المستقلة والحقيقية، غير مدركة لعواقب هذا المسار الذي يجعلنا نعيش حالة من الصراع يهدد بانفجار مجتمعي يعصف بحقوق الضعفاء.

إن الحفاظ على حالة السلم المجتمعي يتطلب الحفاظ على حق التنظيم عموما سواء النقابي العمالي، أو الطلابي، أو حتى الأهلي، وبما يضمن تكريس الوعي بحقوق المواطنة.

ومنذ العام 1952 تحاول السلطة في مصر التملص من الوفاء بإقرار الحق في التنظيم عبر المقايضة بإقرار عقد العمل الدائم، وتحديد حد أدني للأجور، وجاءت ثورة يناير المجيدة، لتعيد هذا الاستحقاق إلى الواجهة، ليتم إقراره أخيرا عبر دستور عام 2014، وقانون النقابات العمالية رقم 213 لعام 2017، كنتيجة لنضالات عمالية وسياسية.

ومنذ تلك التواريخ حاولت الحكومة التهرب من الالتزام بتطبيق تلك القوانين، وبالتوازي ارتفعت وتيرة الانتهاكات بحق القادة العماليين المستقلين، كما عمل وزير العمل حسن شحاتة خلال العامين الأخيرين على إجهاض التجربة بالكامل، وذلك على عكس تصريحاته على المنصات الدولية.

النية مبيتة لإجهاض الحركة العمالية، وأحد أهم تنظيماتها ألا وهي النقابات المستقلة، وذلك في ظل أوضاع اقتصادية تخيم على أحوال العمال المعيشية، وحد أدني للأجور، لا يخلو من الاستقطاعات المالية التي تجعله لا يفي بالتزامات الأسر الأساسية، ولا يقي العمال شر الفقر والحاجة، خصوصا في ظل نسب تضخم تقترب من 40%، وهو ما يجعلهم في أشد الحاجة إلى التعبير عن أنفسهم بشكل منظم.

وخلال العامين الماضيين لم تتمكن المنظمات النقابية المعلقة أوضاعها من إيداع أوراقها واستيفاء أوضاعها القانونية، وكذلك تم وقف لجنة الشكاوى، المنوطة ببحث هذا الملف، والتصميم على عدم تسليم النقابيين سند يفيد استلامهم لتلك الأوراق، وعليه فملف الحريات النقابية لم يتحرك قيد أنملة، بل ربما لا نبالغ إن قطعنا بتراجعه إلى الخلف.

تعمل الحكومة على إخراس الأصوات النقابية، والعمالية عبر قيامها بمجموعة من الانتهاكات التي نذكر منها:

• محاولة عرقلة انتخابات النقابات المستقلة عبر التدخل في خيارات العمال ثم تعطيل عملها بالضغط أمنيًا على قيادات هذه النقابات لمنعهم من الترشح، كحالة نقابة العاملين بأندية هيئة قناة السويس.

• إيقاف الحسابات البنكية لعدد من النقابات، للقضاء على أنشطة تلك الكيانات، حيث يمنع القانون اللجوء إلى أي مصادر مالية غير اشتراكات أعضاء النقابة، وهو ما تكرر في العديد من الحالات منها اللجنة النقابية للعاملين في شركة الغزل والنسيج (الشوربجي)، وأيضا نقابة العاملين بأندية هيئة قناة السويس.

• حل النقابات أو دمجها، عبر وقف عملها والتحجج بعدم الحاجة لها كحالة نقابة العاملين في شركة الغزل والنسيج (الشوربجي)، دون الوضع في الاعتبار الشخصية الاعتبارية المستقلة لتلك النقابات.

• الاستيلاء على مقرات النقابات وأوراقها ومنع القادة النقابيين من الدخول إلى مقار عملهم أوالتواصل مع زملاءهم كحالة نقابة العاملين في شركة الغزل والنسيج “الشوربجي”.

• العمل على ترهيب القادة العماليين، حيث تتدخل الجهات الأمنية في كل تفاصيل عملهم النقابي بما فيها المفاوضة الجماعية والتي انتهت في العديد من الحالات بسجن العمال “حالة غزل المحلة نموذجًا”.

• انتهاك حق الإضراب عبر اشتراطات قانونية لا يمكن تحققها كاملة، في تصادم مع الدستور الذي ينص صراحة على حق الإضراب.

• استعمال قوانين استثنائية لمحاكمة العمال مثل الإرهاب، وإلصاق التهم السياسية بهم حتى وإن كان السياق عمالي بحت.

• ولا ننسى أن أداة الحبس وتقييد الحرية لا تزال التهديد الأكبر في مواجهة العمال ومحاولاتهم للتنظيم، إذ لا تزال عددا منهم خلف الأسوار بتهم ملفقة.

• وبالتوازي مع هذا القمع تستعد الحكومة لإقرار مجموعة من القوانين منها قانون العمل، الذي لا نعلم عن إجراءات إقراره شيئا، ولا يختلف في طبيعة مواده كثيرًا عن القانون الحالي، بينما تتغنى الحكومة على منصة منظمة العمل بحوارها الاجتماعي، التي لا تدعو فيه إلا ممثلين عن الاتحاد التابع لها وتختار لمحاورتها تمثيل غير حقيقي عن النقابات المستقلة.

كما أن الحكومة ذاتها تدعي أنها في طريقها لإصدارها قانون غير معروف الهوية يخص العمالة المنزلية، بينما تجاهلت القانون الذي قدمته دار الخدمات النقابية بالتعاون مع مجموعة من أصحاب الشأن، لتستجيب للضغوط الدولية المطالبة بمثل هذا القانون، بينما لا يعبر هذا القانون عن المجتمع وأفراده الحقيقيين، حيث تتجاهل السلطة فتح النقاش معهم.

وفي ظل 14 مليون مصري خارج منظومة العمل الرسمية، ويعملون دون حماية اجتماعية، أو اقتصادية ترفع الحكومة سعر الخبز “طعام الفقير” والماء والكهرباء، وتقوم بخصخصة الخدمات الصحية، لترفع “الستر” الذي طالما تباهى به البسطاء من المصريين في أحاديثهم اليومية، وتعمل على إلهاء الجمهور بتصريحات على لسان وزير العمل أنها في طريقها لتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية.

بالتوازي مع ذلك تحاول الحكومة التخلص من مجموعة أكبر من العمال والعاملات، والموظفين والموظفات٬ عبر قانون مصطنع يتضمن الكثير من العوار والمخالفات، لمواد الدستور نفسها، وهوالقانون 73 لسنة 2021 والذي تسبب في فصل ما يقترب من 15 ألف عامل وعاملة حتى الآن بحجة تعاطيهم للمخدرات دون كشف طبي منضبط عليهم أو فرصة للطعن على نتيجة الكشف، ودون وضع مصير آلاف الأسر في الاعتبار.

وأخيرا٬ التوقف عن المصادقة على أي معاهدات دولية حديثة من شأنها حصول العاملات والعمال، وأفراد المجتمع عموما على حقوق جديدة، مثل اتفاقية منع العنف والتحرش في عالم العمل، وغيرها.

وإذ تطالب حملة “الحق في التنظيم” بالكف عن تلك الانتهاكات وإعمال العقل والقانون، فإنها تدعو كافة القوى الديمقراطية للتضامن معها من أجل وقف التنكيل بالعمال والعاملات وإلزام الحكومة باحترام الدستور والقانون والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق النقابات المستقلة.